"التبوريدة"... احتفاء مغربي بالخيل والشجاعة

منذ 1 سنة 148

تقف مجموعة من الفرسان وقد اعتلوا أحصنتهم، مرتدين جلابيب بيضاء وسراويل فضفاضة، ومعتمرين عمامات تقليدية، ينتظرون إشارة قائد المجموعة لينطلقوا بسرعة مذهلة، على إيقاع حوافر الأحصنة، وفي وقت معين ومتفق عليه يتم إطلاق البارود من بنادقهم التي يسمونها "المكحلة".

هذا المشهد يتكرر في مسابقات ومهرجانات الفروسية التقليدية التي يطلق عليها اسم "التبوريدة"، نسبة إلى البارود الذي ينطلق مدوياً من بنادق الفرسان، وهي مهرجانات استعراضية باتت تشهد انتشاراً كبيراً خصوصاً في فصل الصيف بالمغرب، كما صارت "التبوريدة" تجذب حتى الإناث مثل الذكور.

مغرب 2.png

لفرجة "التبوريدة" أو استعراضات الفروسية التقليدية تاريخ عريق في المغرب (وكالة الأنباء المغربية)

تاريخ "التبوريدة"

ولفرجة "التبوريدة" أو استعراضات الفروسية التقليدية تاريخ عريق في المغرب، وتشير معطيات متطابقة إلى أن أول استعراضات هذا النوع من الفروسية ظهر في القرن الـ15 في البلاد، بينما ترجع منظمة "اليونيسكو" ظهور "التبوريدة" بشكلها الحالي إلى بداية القرن الـ17.

وتبعاً للمعطيات المتداولة، فإنه، خلال قرون مضت، كان المغاربة يستعرضون مهاراتهم عبر "التبوريدة"، مستخدمين فيها النبال والأقواس، قبل أن يتطور هذا النوع من الفروسية ليصبح بارود البنادق هو المستعمل في هذه الاستعراضات.

وفي حقب زمنية مضت، كانت هذه "التبوريدة" ترمز إلى استعراضات ذات دلالات وطنية وتحمل في طياتها بذور المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، إذ كان الفرسان يحثون على الجهاد والنضال ضد الاستعمار عبر فروسية "التبوريدة".

مغرب 3.png

تقف مجموعة من الفرسان وقد اعتلوا أحصنتهم مرتدين جلابيب بيضاء وسراويل فضفاضة ومعتمرين عمامات تقليدية (وكالة الأنباء المغربية)

وفي الوقت الراهن تحولت "التبوريدة" على رغم حفاظها على النواة الرئيسة متمثلة باستعراض الفرسان لبراعتهم وإطلاق البارود من بنادقهم بطرق فريدة ومرتبة، إلى مناسبات احتفالية وفولكلورية وتراثية تجذب السياح والزوار، ويبدو أن هذا الطابع التراثي والفولكلوري لاستعراضات "التبوريدة" وخلفياتها التاريخية والثقافية، دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" إلى إدراجها ضمن لائحة التراث الثقافي غير المادي منذ عام 2011.

حب الفرس

وشهد المغرب خلال السنوات القليلة الأخيرة تنامياً لافتاً لتنظيم مهرجانات الفروسية التقليدية أو "التبوريدة" في مدن وجهات عدة بالبلاد، وأشهرها مهرجان مدينة الجديدة، ومهرجان المنصورية، ومهرجان إبراهيم بولعجول في ضواحي مدينة سلا، وغيرها من المهرجانات و"المواسم" التي تعرف تنظيم استعراضات "التبوريدة".

ورأى الباحث في الفولكلور والتراث المغربي عبدالله السايح أن "مواسم التبوريدة" تزداد عدداً في المغرب، خصوصاً في الصيف، "لقدوم السياح الأجانب والمحليين فضلاً عن توافد أفراد الجالية المغربية"، ووفق الباحث عينه فإن الاهتمام بمواسم واستعراضات "التبوريدة" والفروسية الشعبية ليست اعتباطاً في المغرب، بالنظر إلى العناية المعروفة عند المغاربة بالفرس والحصان، سواء في تربيته أو تنظيم ندوات ومواسم ومهرجانات خاصة بالاحتفاء بهذا الحيوان.

أضاف السايح أن الاهتمام بالفرس يتم على أعلى المستويات في الدولة، من خلال ترؤس أحد الأمراء الاتحاد المغربي للفروسية، فضلاً عن إشرافه على تنظيم مهرجان الفرس الشهير بالجديدة، لافتاً إلى أن الفرس يحظى عموماً بتقدير ثقافي وتراثي واجتماعي لدى المغاربة. وتابع أن "المغاربة يرتبطون كثيراً بالفرس أو الحصان، ويهتمون بالفروسية وفنونها، وسباقات الفرس، كما يقدرون ما يسديه الفرس من خدمات جليلة للمواطن خصوصاً سكان البوادي والقرى والأرياف".

وخلص الباحث المغربي إلى أنه "لا غرو بالتالي من انتشار مواسم (التبوريدة) والفروسية التقليدية التي يسميها البعض (الفانتازيا) في المغرب، لكونها تجسد تلك العراقة التي تميز البلد والهوية المغربية القائمة دوماً على ثنائية الأصالة والمعاصرة والتقليد والتحديث".

"ماطا"

ومن بين ما تحفل به مهرجانات الفروسية التقليدية والتراثية بالمغرب لعبة "ماطا" المثيرة، والتي يعود أصلها الجغرافي إلى قبيلة "بني عروس" شمال المغرب، وتحديداً على بعد 71 كيلومتراً من مدينة العرائش.

ويقول حمد ولد لعروسي أحد ممتهني ركوب الخيل ومن أفراد قرية "بني عروس" إن هذه اللعبة التراثية تمارس غالباً في فصل الربيع، وتحديداً في شهر مايو (أيار) من كل سنة، ضمن مهرجان دولي يقام لهذا الغرض في ضواحي مدينة العرائش.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتبعاً للمتحدث الذي يشارك في مهرجان "ماطا" فإن ملخص اللعبة التراثية هذه أن فرساناً من قبائل مجاورة عدة يتنافسون ضمن أجواء حماسية وتراثية وروحانية أيضاً على دمية جميلة ترمز إلى أجمل فتاة بالمنطقة، ويتابع الفارس نفسه أن "القصة القديمة تحكي أنه كانت هناك فتاة في غاية الجمال من فتيات منطقة جبالة، وكان الفرسان يتنافسون لنيل رضاها ولا يتزوج منها سوى الفارس الشجاع الذي يفوز على باقي زملائه، ويظهر استحقاقه خطف الفتاة إلى قبيلته الأصلية"، وأوضح أيضاً "أنه في العادة تعمد سيدة مسنة إلى صناعة دمية كبيرة الحجم من قماش أو صوف، تكون مزينة بالحلي والملابس التقليدية، فتنطلق مجموعات الفرسان الشباب للتنافس حول من يخطف الدمية قبل الآخرين، في أجواء من التهليل والتحميد والصلاة على النبي".

فارسات "التبوريدة"

ومما يميز مسابقات الفروسية و"التبوريدة" في المغرب أن العنصر النسوي صار بارزاً في هذه "المواسم" خلال السنوات القليلة الأخيرة، وصارت الفتيات الشابات واليافعات يحرصن على الوجود ضمن الفرسان الذين يمارسون "التبوريدة"، واقتحمت الفتيات المغربيات هذا الصنف من الفروسية الاستعراضية، إذ يشاهدن كفارسات برفقة الرجال في استعراضات "التبوريدة"، أو يشاهدن في فرق نسائية خاصة من دون رجال، أو كقائدات لأسراب الفرسان الرجال.

نورة محامدي، شابة في عقدها الثاني، تشارك في فروسية "التبوريدة" في مهرجان إبراهيم بولعجول، تقول إنها ولجت هذا العامل الرجالي بامتياز لعاملين اثنين، الأول لأنها تربت على ركوب الفرس وحب "التبوريدة" الذي زرعه فيها والدها الذي توفي في حادثة تعثر حصانه قبل سنوات، والعامل الثاني، وفق نورة، أنها تحب المغامرة التي تعتمد على الشجاعة والشهامة، وترفض الانصياع للصورة النمطية التي تمنع الأنثى من ممارسة عديد من الأنشطة والمهن، مبرزة أن "التبوريدة النسائية تكون أكثر دقة ومتعة من تبوريدة الرجال، بالنظر إلى ما تتمتع به الأنثى من براعة وانضباط".