يوماً بعد يوم تعرف البيوت العربية تحولات جمالية عدة لأن التأثير الفني الغربي يبدو بارزاً في عدد من طرزها الجمالية لكون هذا الوافد الغربي يؤثر "سلباً" في هذه الفضاءات ويجعلها تعيش غربة على مستوى تفاعلها مع التراث.
هذا الأخير لم يعد ما تركته الأجيال السابقة من فنون وصنائع وأفكار، بل غدا يفرض علينا اليوم توجهاً جديداً لإعادة استغلاله على ضوء مقاربات جديدة ومتنوعة. فالتصاميم الجمالية المعاصرة تكتسح جغرافيات البيوت العربية وتحولها إلى نسخ جمالية متكررة، بل إن المنظومة التراثية نجدها عاجزة عن مقاومة التصاميم الغربية على اختلاف صورها وأنواعها لأنها تتعامل مع التراث بطريقة تقليدية وهشة لا تتجاوز حدود الاجترار والتكرار في حين أن التصاميم الغربية عملت على مدار تاريخها تجديد جسدها، وأصبحت تصاميمها الجمالية تنهل من تراث الآخر وتعيد صياغته بطريقة معاصرة.
أنساق بصرية
ويحضر داخل هذه الأعمال عديد من التصاميم التي تستوحي جمالياتها من الأنساق البصرية الأفريقية بطريقة تجعلها تنتمي إلى الأصالة من مدخل المعاصرة، لهذا فإن عملية التأثير والتأثر بين التصاميم الغربية ونظيرتها العربية واضحة المعالم والرؤى.
وتتخذ عملية هذا التأثر اشتغالات متباينة إما من باب استلهام التراث العربي الإسلامي على صورة علامة تؤكد انتماء الفضاء إلى سياق عربي، كما هو الحال في عدد من المطاعم والمقاهي. بينما يتخذ البعض من هذا التراث فقط صورة فنية أو "موتيف" جمالياً على جسد وسادة أو أريكة أو باب خشبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فالتعامل مع التراث العربي كصورة جمالية عابرة يجعل تصاميمها بالغة الأهمية. لا لأن المصمم الغربي يعشق التراث العربي الإسلامي فقط، بل لأنه يتعامل معه بنظرة تقدمه إلى البيت الغربي على أساس أنه تصميم "غرائبي" عن البيئة الغربية وشؤونها.
غياب رؤية فنية
يتعامل المصمم العربي مع التراث بوصفه هوية، أو مجموعة من الرموز والعلامات المترسبة في بنية الحضارة العربية الإسلامية. فيأتي الاشتغال على هذا الموروث الجمالي بطريقة ميكانيكية تعيد اجتراره من دون أي إبداع أو ابتكار.
وفق هذا التعامل يسهم المصممون في قتل التراث بطريقة غير مباشرة ويجعلونه مادة فولكلورية فقط. الاهتمام بهذا التراث يبدأ من عملية وضع قراءة معاصرة له، قراءة تضع تصاميمه وجمالياته وزخارفه وأنساقه في مختبر حداثة بصرية عربية. لا ينبغي أن ينظر المصمم إلى التراث في سياقه وتاريخه ويتجرأ على إخراجه من سراديب التاريخ، حتى يتنزل منزلة رفيعة ومرموقة داخل التصاميم المعاصرة. ولا شك أن هذه التصاميم التراثية التقليدية، لا تزيده سوى غربة وهشاشة داخل بيئته.
في حين يبدو التراث البصري الغربي حاضراً بقوة داخل البيئة العربية، لأنه تراث غني، على رغم السبق العربي عليه أحياناً من الناحية التاريخية والحضارية.
يعتبر عديد من الباحثين أن غياب التصاميم التراثية داخل البيوت العربية، لا يعود إلى هشاشة التراث نفسه، وإنما المخيلة التي بها يفكر في هذا التراث. فبدلاً من أن يتم تحديثه وتوليفه مع موتيفات جمالية معاصرة، يستعملون التراث بكل طرزه القديمة.
إذ يجد صاحب البيت نفسه أمام جدران خشبية أو أسقف من الجبس المزركش بكتابات ورموز وعلامات، في حين تعلمنا التصاميم الغربية المعاصرة أن البساطة والتقشف في استخدام الموروث يعطيه مسحة جمالية مذهلة. إن هذه الأبهة من ناحية الشكل والمضمون تجعل الإنسان العربي يهرب من التراث ويستعمل بدله صوراً فنية أخرى ذات معاصرة.
لا يعرف المواطن العربي معنى "الحداثة و"المعاصرة" على مستوى تصاميم البيوت، ولكنه يتعامل معها انطلاقاً مما توفره له السوق المحلية من تصاميم وصور ومواد وعلامات. فالأسواق العربية مليئة بصور هندسية غربية على مستوى تصاميم البيوت من الداخل وطريقة تقسيمها ونوع الأثاث الذي يليق بها، في حين يبقى التراث العربي الإسلامي بكل فنونه وصنائعه وجمالياتها، غريباً ومنفلتاً من قبضة التفكير.
الحديث بدل المعاصر
غالبية المهندسين ومصممي البيوت العربية يقفون في تفكيرهم عند مفهوم "الحديث" بدل "المعاصر". فهذه المفاهيم الفكرية تبقى مهمة جداً في عملية الاختيار، لأنها تدفع بالمصمم إما للوقوف مع الحداثة أو السباحة ضدها. للفن الحديث صناعته وجمالياته التي بها ظل يحتمي من التحولات.
فإذا كان الحديث يولي اهتماماً بالمضامين الفنية، فإن نظيره المعاصر يهتم أكثر بالصورة الجمالية. فتاريخ الفنون المعاصرة يغلب عليها ثورة الأشكال أكثر من المضامين، بل إن الصرح المعمار المميز هو الذي يقود الفنان إلى الاهتمام بصور فنية أكثر تجذراً في الواقع، في حين تتعامل التصاميم الحديثة مع التراث باعتباره شيئاً مقدساً.
من ثم، حين تستخدمه تعطي الانطباع بمدى تملك التراث للحظة. أما التصاميم المعاصرة، فيتم توظيف التراث بطريقة سهلة تجعله أشبه بروح خفيفة يشعر بها المواطن على الجسد المعماري، غير أن الانتماء إلى الواقع سرعان ما يخطفه.
يقول الكاتب محمد الجويلي "إن أعمدة المنزل العربي الحقيقية التي يشيد عليها قبل أن تكون مكونة من الحجر والآجر والرخام، هي قبل كل ذلك تتشكل من مجموعة من القيم الثقافية، فإذا نظرنا في كلياته وجزئياته، أي من حيث تصميمه العام المتميز بدائريته وانغلاقه والتفاف جزئياته على بعضها بعضاً أو من خلال نوافذه ومشربياته نجده يستند إلى عمود أساس يتمثل في الرغبة في الخصوصية والتستر، حيث يسمح فيه بالنظر من الداخل إلى الخارج ويمنعه من الخارج إلى الداخل".
الوافد التركي
في جدلية الحديث والمعاصر في علاقتهما بالتراث داخل البيوت العربية، يبرز أمر مهم داخل البيت. فالناظر يجد كثرة المواد التركية الدخيلة على المنطقة العربية، بما يجعل هذه المواد تؤثر سلباً في تصاميم الأثاث. فهي لا تعدو أن تكون مواد من الأثاث العادي المنتشر في العالم. وهذا في حد ذاته يزيد من تغريب عشرات المواد المصنوعة يدوياً والأكثر تجذراً في الموروث العربي الإسلامي. هذه المواد لم تقحمها العولة داخل محيطنا الاجتماعي، بل أسهم المسلسلات التركية في الترويج لها على طول البلاد العربية، بل يتم ذلك عمداً من أجل الترويج لهذه التصاميم المحلية وجعلها تدخل البيوت العربية. ففي مدينة إسطنبول نفسها التي تعد أكبر المدن العالمية وفرة من حيث المعمار التراثي الإسلامي، يعثر الزائر داخلها على تصاميم غربية لا تتماشى أحياناً مع محيطها الاجتماعي. وهذا في حد ذاته يطرح مجموعة من الأسئلة، كيف أن مدينة بهذا العمق التاريخي أضحت اليوم مهددة بهذا الوافد الغربي الذي يقتحم الأخضر واليابس؟
وتلعب المسلسلات التركية دوراً كبيراً في الترويج لهذه الصنائع على مستوى الديكور على أساس أنها منتج محلي، مع العلم أن تصاميمها غربية بامتياز، إذ يعتقد المشاهد أن ما يراه في الأفلام من تصاميم هو تركي محض، في حين أن الحقيقة عكس ذلك.
إن الدخول إلى الحداثة لا يبدأ بتقليد الآخر الغربي والعمل على محاكاته بطريقة آلية وميكانيكية، بقدر ما تبدأ الحداثة في أفقها الكوني من اللحظة التي يعود فيها المصمم العربي إلى جذوره. فيحاول انطلاقاً من هذه الجذور خصوصية تاريخه وذاكرته، فيبدع مجموعة من التصاميم التي تنتمي إلى التراث، لكنها في الوقت نفسه تتطلع صوب الصيحات الجمالية المعاصرة.