نشر إعلان أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي عن وظيفة لحارس عقار لفيلا في واحدة من الأحياء المصرية الراقية مقابل راتب قدره 20 ألف جنيه (نحو 700 دولار)، ما أثار جدلاً كبيراً باعتبار أن هذا الرقم مبالغ فيه للغاية ويتجاوز معدل أجور كثير من المهن في البلاد.
يعتبر حارس العقار في مصر أو ما يطلق عليه المصريون "بواب العمارة" واحد من المهن التي تنتشر في طول البلاد وعرضها من دون أي ضوابط أو قواعد تحكمها، فكما جرى العرف فإن البواب هو الشخص المنوط به حراسة العقار وتنظيف السلم ومدخل العمارة وشراء حاجات السكان من السوق في بعض الأحوال، كما جرت العادة على أنه لا يوجد أي شكل من أشكال التعاقد الرسمي بين حارس العمارة وسكانها.
يؤدي البواب هذه المهام مقابل أن يسكن في غرفة أو غرفتين غالباً ما تكونا بمدخل البناية أو على سطحها، ويحصل على مبلغ شهري من كل شقة، وحينما تثار مشكلة بينه وبين السكان يرحل ويأتي غيره على نفس الوضع في دائرة مستمرة طوال سنوات طويلة.
البيه البواب
غالباً ما كان بواب العمارة قادماً من الريف بأسرة كبيرة تسكن في المكان المخصص له وتنتشر هي الأخرى بالمنطقة باحثة عن موارد للرزق، فزوجته أحياناً تعمل في التنظيف ومساعدة سيدات العمارة في الأعمال المنزلية، وأبناؤه ينخرطون ببعض المهن والأعمال البسيطة مثل البيع في المتاجر المجاورة أو القيام بأعمال توصيل الطلبات إلى المنازل، أو الالتحاق بالورش والأعمال الحرفية إن وجدت، وتعمل الأسرة بكاملها خارج الإطار الرسمي.
وفي بعض الأحوال يخرج البواب كامل الأسرة للعمل ويجلس هو على مدخل البناية ليحتسي الشاي والقهوة متسائلاً عن هوية الداخل والخارج ومتعقباً من قدم ومن رحل من دون عمل حقيقي ليتحول إلى "البيه البواب".
قدم الراحل أحمد زكي تيمة البواب الغنية درامياً في فيلمه الشهير "البيه البواب" بصورة شديدة الواقعية، وتناولتها عديد من الأعمال الدرامية على مر السنوات كان أخرها مسلسل عرض منذ أشهر قليلة بعنوان "على باب العمارة" يعكس مفارقات من شخصية حارس العقار باعتبارها شخصية شديدة الثراء من الناحية الدرامية.
وبحكم جلوسه في الطريق لساعات طويلة يعرف البواب كامل سكان المنطقة وعائلاتهم ومواعيد خروجهم ورجوعهم وسلوكياتهم الطيبة والمسيئة مما يجعله مصدراً هاماً للمعلومات عند الرغبة في التعرف على معلومة معينة بخصوص أحد الأشخاص أو العائلات مثل شخص سيتم مشاركته في عمل أو عريس متقدم إلى إحدى الفتيات.
يحكي المهندس مصطفى (69 سنة) والذي يقطن في واحدة من عمارات منطقة الدقي غرب القاهرة قائلاً "أسكن في هذه البناية منذ عام 1979 أي منذ نحو 45 عاماً وتوافد عليها على مدار السنوات العديد من الحراس الذين تغيرت سماتهم تماماً على مر الزمن، ففي البداية كان الحارس في الأغلب نازح من الصعيد أو واحدة من المحافظات القريبة من القاهرة باحثاً عن عمل، وغالباً ما يكون أمياً لا يجيد القراءة ولا الكتابة ليكون شغله الشاغل أعمال نظافة العمارة وحراستها وقضاء طلبات السكان من السوق".
ويقول المهندس مصطفى "لاحقاً بدأت ظاهرة (البيه البواب) التي جسدها ببراعة الراحل أحمد زكي في الفيلم الشهير، حيث بدأ التمرد على الأعمال التقليدية واتجه البواب إلى أعمال أخرى مثل التجارة والسمسرة الناتجة من بيع الشقق وتأجيرها لتتحول العمارة إلى مقر لإدارة أعماله مع تأدية أعمال تنظيفها والعناية بها من دون اهتمام، الملاحظ أيضاً هو تخلي البواب عن زيه التقليدي مثل الجلباب والشال وارتدائه للملابس العصرية".
يشير إلى أن اتحاد ملاك البناية قرر في وقت من الأوقات التخلي عن البواب واعتماد موظف أمن، إلا أن التجربة فشلت، لأن موظف الأمن لا يقوم بأعمال التنظيف وشراء الطلبات مما استدعى الاتفاق مع بواب أحد العقارات القريبة للقيام بهذه الأعمال فكانت الكلفة مضاعفة مما أدى للعودة للبواب التقليدي على رغم مشكلاته.
محاولات للتنظيم
في عام 2018 تقدم نائب في البرلمان بمشروع مقترح لقانون لتنظيم عمل فئة حراس العقارات تضمن أن يتم تحديد حد أدني لأجورهم وأن يشملهم التأمين الاجتماعي وأن تحدد المهام المنوط بهم القيام بها، وكان القانون سيشترط أن يكون الحارس ملماً بالقراءة والكتابة وأن يلتزم فقط بالعمل في حراسة العقار.
القانون لم يصدر للنور ولاقي جدلاً وقتها، وكانت واحدة من الأزمات الكبرى التي ستواجهه أن حصر العاملين في هذه المهنة هو أمر صعب للغاية، والمفارقة أن كثيرا من حراس العقارات أنفسهم هم من كانوا معترضين على الفكرة، فتقنين أوضاعهم سيحرمهم من كثير من مصادر الدخل التي توفر لهم أموالاً أعلى بكثير من أجر حراسة العمارة.
إمبراطورية البوابين
المناطق الجديدة أو التي تكون تحت الإنشاء تمثل فرصة ذهبية لمستهدفي العمل كحراس للعقارات باعتبار أنها تضم العديد من البنايات التي سيستهدف ساكنوها الجدد من يقوم على حراستها والقيام بأعمال النظافة وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحكي ريهام التي تسكن بمنطقة حدائق الأهرام بالقاهرة "نسكن في هذه المنطقة منذ نحو 10 سنوات وعندما جئنا إلى أحد امتدادات المنطقة كان هناك عشرات البنايات تحت الإنشاء ولاحقاً استعمرها البوابون فيأتي واحد بأسرته لأحد البنايات ولاحقاً يرسل لأقاربه ومعارفه فيتوافدون تباعاً على باقي العمارات مما نتج منه إمبراطورية متكاملة يتحكم بها حراس العقارات في المنطقة بعد أن أصبحوا عائلة و(عزوة) بلغة أهل الريف فهم يسيطرون على صف السيارات وإيجار الشقق وبيعها وبعضهم أصبح صاحب توكتوك يستخدمه في نقل السكان داخل المنطقة مقابل أجر".
وتقول ريهام "بعضهم أصبح يمتلك الكثير من الأموال، فهو يكسب من أعمال متعددة ولا يدفع أي شيء مقابل السكن وفواتير المياه والكهرباء ويحصل على كثير من المساعدات من السكان مثل الملابس وغيرها، لكنه يحافظ على هيئته البسيطة، لأنها تساعده على طبيعة عمله، يقوم البواب بتنظيف السلم ومدخل العمارة على مضض ولكننا نشعر أن الغرض الأساسي من وجود حارس العقار أصبح تقريباً منتفي فقد سرقت العمارة بالفعل مرتين خلال مدة إقامتنا أثناء فترات قيامه بأعماله الإضافية".
عوامل الجذب
على رغم عدم استقرار مهنة حارس العقار وعدم وجود أي حقوق للعاملين فيها إلا أن أعداد من يزاولونها تزداد ولم تنقطع عبر عشرات السنوات وينزح كثيرون إلى القاهرة والمدن الكبرى للعمل فيها، فماذا يكون دافعهم، ولماذا لا يتجهون إلى العمل في كثير من الحرف الأخرى، سواء في بلادهم أو بالقاهرة؟
يقول شعبان (38 سنة) يعمل كحارس عقار بمنطقة الهرم في محافظة الجيزة "بالأساس أنا من محافظة بنى سويف (جنوب القاهرة) ومع قلة فرص العمل هناك قدمت إلى مصر (يقصد القاهرة) مثل كثير من شباب قريتنا للبحث عن لقمة العيش، أحد أقاربي رشحني لصاحب عمارة وبالفعل عملت بها كحارس منذ عدة سنوات".
ويضيف شعبان "ما يميز هذه المهنة بالنسبة إلي هو أنها تتضمن السكن والإقامة، فأي عمل آخر سأحتاج إلى استئجار مسكن لأسرتي المكونة من زوجتي وثلاثة أطفال وسيكلفني هذا مبلغاً كبيراً، وإلى جانب العمارة أحاول القيام ببعض الأعمال الإضافية مثل غسيل السيارات لزيادة دخلي، فما أحصل عليه من العمارة في النهاية مبلغ بسيط، خصوصاً أنى ألحقت أطفالي بالتعليم ويتطلب هذا مصروفات كثيرة".
البواب وموظف الأمن
خلال العقود الأخيرة انتشرت في مصر فكرة "الكمباوند"، تلك الأحياء السكنية الفاخرة المسورة، وغالباً لن يفضل ساكنوها الاعتماد على العمالة التقليدية، سواء حراس العقارات وعاملات المنازل، فيلجئون إلى شركات الأمن وعاملات المنازل الأجنبيات، إلا أن أغلب المناطق السكنية بما فيها الفاخرة نسبياً ما زالت تعتمد البواب التقليدي الذي أصبح جزءاً من تركيبة المجتمع المصري، على رغم أزمات متعددة يثيرها، ومن أبرزها فرض نسق قيمي معين على المكان قد لا يتماشي مع طبيعة سكانه نتيجة عدم وجود أي وعي عند هذه الفئة.
الأستاذة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية سوسن فايد تقول "هناك ضرورة قصوى لتحديث بعض التشريعات والقوانين فيما يتعلق ببعض القضايا التي تمس المجتمع بشكل مباشر ومن بينها تنظيم العلاقة بين مثل هذا النوع من العمالة وأصحاب العمل، لأن هذا في النهاية سينعكس في شكل من أشكال الاستقرار الاجتماعي".
وترى فايد أن "الأزمة تتمثل في أن هذه الفئات، سواء كانت حراس العقارات أو عاملات المنازل وغيرهم، لا توجد أي وسيلة أو آلية لحصرهم، وهو ما يجعل الأمر شديد التعقيد، فبعض منهم يدخل سوق العمل ويخرج منه بمعزل تام عن الدولة وعن أي شكل من أشكال التنظيم".
وتضيف أن "الأزمة الكبرى التي يتسبب فيها حراس العقارات هو أنهم يفرضون حالة من العشوائية على المناطق التي يعملون فيها ويفرضون قيماً قد لا تتفق مع سكان المنطقة، ومع التفاوت الشديد في المستويات الاجتماعية والاقتصادية واتساع الفجوة قد يخلق هذا صراعاً طبقياً مما يجعل هناك خطورة شديدة من الأمر، فحراس العقارات بالشكل التقليدي وليس أفراد الأمن التابعين للشركات يزحفون نحو أي منطقة جديدة بما في ذلك المناطق التي يقطنها الفئات الأعلى بكثير في المستوى ويشكلون مجتمعاً داخل هذا المجتمع، فهذه الفئة تحتاج إلى احتوائها ونشر الوعي بينها بجميع الوسائل وإيجاد آلية معينة لاستيعابهم تحت مظلة ما".
وبخصوص الإعلان المزعوم لوظيفة حارس عقار براتب 20 ألف جنيه، ترى أن "الأمر قد يكون له بعد آخر، وهو أن صاحب الإعلان، إن وجد، يعاني حالاً شديدة من عدم الأمان، ويحاول شراءه بتوظيف شخص بهذا المبلغ الذي قد يشكل إحباطاً شديداً لأصحاب مهن كثيرة لا تتقاضي هذا الأجر".