البطيخة رمز "حلاوة الصيف" قد يفسدها التغير المناخي

منذ 1 سنة 97

تحت تلك القشور الخضراء السميكة يكمن سر من أسرار الارتواء، إذ يتحلق الجميع وكلهم أمل في هذه الثمرة الدائرية الكبيرة التي ربما بعد فتحها ترتسم البهجة على الوجوه أو تعبس الملامح، فالبطيخة ليست مجرد محصول يباع في الأسواق يزدهر صيفاً ويزيد الإقبال عليه كلما اشتد لهيب الشمس، إنما ترتبط بما هو أكبر، إنها رمز إطفاء القيظ الأقل ثمناً الحاضرة في الوعي الشعبي بأمثال ومقولات تتردد حتى الآن على ألسنة الناس.

البطيخة التي عرفها المصريون منذ آلاف السنين ورسموها على جدران معابدهم وتناولها فنانو العصر الحديث في أعمالهم السينمائية ليجسدوا من خلالها واقع المواطنين البسطاء، باتت تحت رحمة التغير المناخي والاحتباس الحراري، فالثمرة المرتبطة بفصل الصيف قد نجدها في مواسم أخرى.

التغيرات المناخية

في العام الحالي جاء البطيخ قبل أن يأتي الصيف، ففوجئ المصريون بامتلاء الأسواق بالثمرة في شهر أبريل (نيسان) في حين كان الطقس لا يزال معتدلاً وتتخلله مسحة برودة، الأمر الذي فجر أقاويل وإشاعات تشير إلى أن البطيخ المنتشر حينها مسرطن ومليء بالهرمونات المستخدمة لتسريع نضجه.

لكن أستاذ البحوث الزراعية خالد عياد نفى هذا الأمر لافتاً إلى أنه من الطبيعي أن يحصل تشكك بعد الظهور المبكر لفاكهة شعبية مثل البطيخ مرتبطة بشكل وثيق بفصل الصيف، مفسراً ما حدث بأنه نتيجة للتغيرات المناخية التي تبدل أحوال الزراعات بشكل عام، بحيث إن البطيخ أثمر مبكراً بالفعل هذا العام، لكنه لم ينضج بشكل كامل في أبريل ومع ذلك سارع المزارعون إلى طرحه في الأسواق أملاً في بيعه بسعر أعلى.

مناوشات الشراء

إذا كانت المراكز التجارية الكبيرة المنتشرة حالياً قلصت كثيراً من حجم المناوشات والمناقشات بين بائعي البطيخ والزبائن، فإن بعضهم لا يزال يفضل شراءه بالطرق التقليدية من الأسواق الشعبية، حيث ينادي الباعة على بضاعتهم المرغوبة بشدة، خصوصاً في تلك الأيام، ويشير محمود عطية الذي اعتاد أن يقف على عربة صغيرة في أحد شوارع منطقة الدقي غرب العاصمة المصرية القاهرة، صائحاً "على السكين يا بطيخ" إلا أن للمصريين متعة خاصة في شراء البطيخ واستعراض مهارتهم في معرفة مدى جودة الثمرة من الخارج، سواء بالتربيت عليها أو بملاحظة لونها ومدى قتامته وأيضاً إذا كانت دائرية أو مبنعجة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويلفت البائع الثلاثيني النظر إلى أنه يبيع فقط البطيخ البلدي المعتاد وليس النمس الطويل فاتح اللون من الخارج أو البطيخ الأصفر من الداخل، ويردد دوماً نداء يعني أنه سيشق البطيخة ليتأكد الزبون من أنها حمراء قاتمة من الداخل وليست بيضاء غير ناضجة، ويتابع "كثيرون يفضلون أن يروا بأنفسهم لونها، لكن بعضهم يفضل أخذها وتقطيعها في المنزل ويعتقدون بأن هذه الطريقة أكثر نظافة واطمئناناً بالنسبة إليهم على رغم أني أحرص دوماً على نظافة أدواتي لأحافظ على صحة المشترين كي يأتوا إلي مرة أخرى".

لكن هل اللون الأحمر الذي يكشف عنه سكينه دليل قاطع على حلاوة ثمرة البطيخ؟ يروي أحد زبائنه الذي كان يتفقد الثمرات المتراصة أنه في البداية كان ينخدع باللون الأحمر القاني بالفعل ويعتقد بأنه بذلك حصل على صفقة جيدة ستسعد أبناءه الذين يعشقون البطيخ، لكنه اكتشف أنه تعرض للمراوغة وأن الأهم هو أن يختبر المذاق أيضاً كي لا تكون فرحته منقوصة.

البطيخ والزواج

هناك رابط أو علاقة بين البطيخ والزواج في نظر بعضهم، فلا أحد يعلم حقيقة العلاقة إلا باختبارات الأيام والأعوام فربما تكون مثالية من الخارج وهناك توافق في كل شيء، لكن بعد التعاملات المستمرة لا ينسجم الطرفان أبداً ويشعران بأنهما تعرضا للخداع.

على الشاكلة نفسها يظل البطيخ بطلاً لمقولات سائدة بين العامة تعبر عن مفهومهم لطبيعته ومواصفاته باعتباره ثمرة مهمة للغاية في حياتهم، وبينها "طل البطيخ بطلوا طبيخ (بدأ موسم البطيخ فتوقفوا عن الطهي)" أي في موسم البطيخ من الأفضل التركيز على تناوله مع مأكولات خفيفة للتمتع بمذاقه لأنه هو نجم الوجبات والأكثر ملاءمة لموسم الحر، بالتالي من الأفضل وضع الأطعمة الدسمة جانباً، ومن بين المقولات المرتبطة بالثمرة العبارة الشهيرة "حط في بطنك بطيخة صيفي"، وتقال للشخص المتشكك في أمر ما لتطمئنه بأن يثق تماماً لأن البطيخ الصيفي مضمون النضج دائماً.

مقبرة فرعونية فاخرة

البطيخ المتوافر بكثرة في السوق في الوقت الحالي تعود زراعته لأكثر من ألفي عام قبل الميلاد وبحسب دلائل وجدها علماء الأحياء وعلماء المصريات في النصف الثاني من القرن الـ19 زرع المصريون القدماء البطيخ لما له من فوائد كبيرة ولتميزه بقلة سعراته الحرارية وتأثيره الإيجابي في عملية الهضم وكذلك احتوائه على مادة الليكوبين المضادة للأكسدة، وفي العشرينيات من القرن الماضي اكتشف البريطاني هوارد كارتر مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، حيث كانت من ضمن النقوش التي تزينت بها جدرانها ثمرة بطيخ، كما احتوت المقبرة على بعض بذور الثمرة التي كانت على ما يبدو طعاماً مفضلاً للملك المصري قبل آلاف السنوات، ونظمت بريطانيا عام 2014 معرضاً يحمل اسم توت عنخ آمون ومن ضمن المعروضات كانت بعض من تلك البذور التي أخذها المستكشفون من المقبرة الأثرية.

وعلى رغم صموده على مدى كل تلك العصور، إلا أنه كما هو واضح قد تتأثر جودة البطيخ بموجات الاحتباس الحراري، فيشدد الأستاذ في معهد بحوث البساتين علي عبدالحميد على أن التغيرات المناخية أثرت سلباً في جميع محاصيل الفواكه والخضراوات، إذ سقطت ثمار كثيرة قبل أن تنضج، ويتابع أن البطيخ تأثر كذلك بتلك الموجة، منبهاً إلى أن تلك الثمرة من الخضراوات وليست الفواكه، تحديداً من فصيلة القرعيات وتزرع في مصر عادة في محافظة البحيرة (شمال).

97E889-preview.jpg

ويتابع "الأشهر والأكثر استهلاكاً هو البطيخ البلدي الدائري، وهناك أيضاً الطويل ويسمى النمس كما هناك بطيخ أصفر، وفي ما يتعلق بالبطيخ الذي يروج له على أنه من دون بذور فهو بطيخ ناتج من علم الهندسة الوراثية والتهجينات، وتكون بذوره صغيرة وشبه شفافة وضعيفة ويسهل تناولها بعكس نظيرتها السوداء الصلبة"، مشيراً إلى أن المهندسين الزراعيين يركزون في هذه الفترة على تطعيم بذور وشتلات لإنتاج محاصيل تقاوم التغيرات المناخية، ضارباً المثل بقسم بحوث الزيتون الذي يعمل به، حيث تم تهجين سلالة من نوعين من الشتلات يمكن استخدامها لأكثر من غرض، بينها التخليل وصناعة الزيوت.

احتفاء سينمائي

ويزرع البطيخ في نحو مئة دولة، فليست هناك متطلبات كثيرة لزراعته سوى الطقس المشمس، ومن بين عشرات الأنواع من البطيخ لا يفضل المواطن العادي سوى شكله التقليدي ويعتبره سلعة استراتيجية في موسم الصيف ويكون للأمر أهمية كبرى حينما يتزامن الصيف مع صيام شهر رمضان.

والبطيخ ثمرة لا غنى عنها في الصيف بالنسبة إلى المواطن المصري، نظراً إلى إمكان شرائه بشكل يومي من دون إرهاق الموازنة، وهو ما تم التعبير عنه بطرق متعددة في الأفلام المصرية، إذ اهتم مبدعو السينما بالعلاقة بين المواطن والبطيخ بشكل خاص، فالمخرج محمد خان رسم صورة تنبض بالواقعية عن الموظف التقليدي الذي يفشل ويتعثر مراراً في حياته، لكنه يشعر بأنه نجا بذاته حينما ينجح في جلب بطيخة حلوة المذاق لأسرته، فصوره يسير وهو يحملها مع الجريدة اليومية معتداً بشخصيته ويذهب إلى أفراد عائلته وكأنه قد جلب لهم البشارة وأعطى لنفسه مكافأة على التحمل والصبر على الأوضاع المغلوطة، وذلك من خلال فيلم قصير قدمه عام 1972 يحمل عنوان "البطيخة"، ومن خلاله أصبحت تلك الثمرة مرتبطة بالموظف محدود الدخل.

ومن بين أبرز الأفلام التي تضمنت مشاهد أساسية حول البطيخ أيضاً "لعبة الست" 1946 لنجيب الريحاني وتحية كاريوكا و"الفتوة" 1957 لفريد شوقي و"سلام يا صاحبي" 1987 لعادل أمام وسعيد صالح و"وش إجرام" 2006 لمحمد هنيدي والأخير طرح قبل أسابيع فيلماً جديداً بعنوان "مرعي البريمو" وتتقاسم الأفيش معه ثمرات متعددة من البطيخ وتدور قصته حول البطل الذي يعمل في بيع البطيخ مع زوجته ويتعرض لمواقف غريبة في حياته ثم يخفي ثروة وميراثاً كبيراً في البطيخ ليبعده من أعين اللصوص.