البريد التونسي من "زمن الوصل" إلى الثورة التكنولوجية

منذ 1 سنة 248

إلى زمن غير بعيد، كان ساعي البريد يحمل رسائل الوصل والشوق قبل أن تقلص شبكة الإنترنت المسافات وتختزلها في تواصل افتراضي سريع وآني.

كانت الرسائل المكتوبة حاملة لمشاعر الحب والشوق تختزل تاريخاً من العلاقات الإنسانية المشحونة، ينقلها ساعي البريد لتخفف من لوعة شوق الأم لأبنائها، وتشعل قلوب الأحباب محبة وشوقاً.

كما شكلت الرسائل البريدية مدونة أدبية بين الكتاب والأدباء، وبنت جسوراً للتواصل بين الناس في أقاصي الأرض ومغاربها.

"تغير كل شيء"

ويعمل ساعي البريد، على تأمين وهج هذه العلاقات الإنسانية من خلال نقل الرسائل من دولة إلى أخرى ومن المدن إلى القرى، قبل أن "يتغير كل شيء" على حد تعبير عم خميس بن عامر، سبعيني متقاعد من البريد التونسي، عمل في مدن داخلية عديدة قبل أن يستقر به المقام في الضاحية الجنوبية للعاصمة، تحدث بنبرة حالمة وهو يقول "كنت في العشرينات من عمري أجول بدراجتي الهوائية وحقيبتي الجلدية السوداء، بين الأنهج الضيقة والأعين ترمقني بلهفة وأنا أضع الرسائل والحوالات البريدية في صندوق البريد، أو أسلمها مباشرة إلى أصحابها، كنت أحفظ أسماء الأنهج وأعرف سكانها، فرداً فرداً".

ويضيف بن عامر "كنت وقتها محل تقدير أهل المدينة، وأنا بالزي الأزرق الرسمي للبوسطا (العبارة المحلية المشتقة من الكلمة الفرنسية la poste)، كان البعض يسلمني البِشارة (بشرى نبأ سار) عند تلقيهم رسالة تحمل أخباراً جيدة عن ابن في المهجر أو طالب يدرس في الخارج، وقد تكون زجاجة مرطبات أو فنجان قهوة أو شاي".

وبحسرة شديدة يقول: "اليوم تغير كل شيء، كانت أياماً جميلة رغم عذابات شوق الأم والأب إلى رسالة من ابنهما في الغربة"، مستدركاً "التكنولوجيا قربت المسافات، ولكل زمن خصوصيته، زمن اليوم ليس زمني لكني أتعايش، بل أحاول أن أساير هذه التطورات الهائلة".

غيرت التكنولوجيات الحديثة والإنترنت وجه البريد واندثرت الرسائل والبطاقات البريدية وأصبحت تاريخاً محفوراً في الذاكرة وذاكرة البريد. 

ضارب في التاريخ 

يعود تاريخ تأسيس البريد في تونس إلى عام 1847، من خلال إحداث أول خدمة توزيع، وتم إنشاء أول مكتب بريد كامل النشاط يؤمن الخدمات المالية والبريدية عام 1875.

ويعتبر البريد التونسي من أول المؤسسات البريدية في العالم التي انضمت إلى الاتحاد البريدي العالمي عام 1878، كما تم إصدار أول طابع بريدي تونسي في 1888. وفي 1918، تم إنشاء خدمة الشيكات البريدية في تونس، ثم في 1956 تم إحداث صندوق الادخار القومي التونسي.

قطاع حيوي بـ1200 مكتب

بدأ الديوان الوطني للبريد في النشاط بشكل مؤسسة عمومية ذات صبغة صناعية وتجارية في 1999، ويؤكد محمد بهلول مدير الشبكة بالبريد التونسي، في لقاء مع "اندبندنت عربية"، أن "البريد قطاع حيوي وهو من أول القطاعات الخدماتية في تونس، واليوم يضطلع بدور هام في الدورة الاقتصادية من خلال تحقيقه أرباحاً هامة من عام إلى آخر وهو من المؤسسات القليلة التي تحافظ على توازناتها المالية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإجابة عن سؤال حول مدى تأثير جائحة كورونا في قطاع البريد يقول محمد بهلول "إن البريد التونسي لم يتأثر بالفيروس، بل انتعش القطاع حيث كان السند الرئيسي للدولة، في إطار دوره المواطني، وقام بتوزيع المساعدات المالية للمواطنين رغم تقلص الخدمات البريدية الأخرى". 

ويضيف أن "البريد التونسي يملك أكثر من 600 موزع آلي ومنح أكثر من ثلاثة ملايين بطاقة بريدية للسحب المالي، وللبريد التونسي أكثر من 1200 مكتب بريد في أنحاء البلاد، وجميع الخدمات المالية متوفرة في جميع المكاتب المجهزة بالإنترنت".

تكنولوجيا حديثة 

وللاستفادة من الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال، يشير مدير الشبكة إلى أن البريد التونسي اعتمد "استراتيجية الابتكار والتجديد في مجال البرمجيات والحلول التكنولوجية حيث تعتبر بطاقة e-Dinar مسبقة الدفع أول بطاقة دفع إلكتروني عبر الإنترنت في تونس، وكذلك الحوالات الإلكترونية والإرساليات القصيرة". 

كما يعمل البريد التونسي على "تطوير خدمات الدفع عبر الهاتف الجوال، على غرار تطبيقة (my poste) التي تمكن المواطن التونسي من الولوج إلى كل الخدمات التي يتمتع بها عند تحوله إلى مكتب البريد، من ذلك التحويلات المالية بطريقة سهلة ومؤمنة".

وحول الاستراتيجيات المستقبلية للبريد يؤكد بهلول أن "البريد التونسي يفكر في إعادة بنك البريد وتحسين الخدمات وتطويرها وتقريبها من المواطن أينما كان". 

وبينما تشير المعايير الدولية المعمول بها إلى مكتب بريد لـ11 ألف مواطن، فإن واقع الحال في تونس يبرز أن التغطية البريدية هي في حدود مكتب بريد لكل 10 آلاف مواطن.
 
مؤسسة مزدهرة

من جهته، يؤكد الحبيب التليلي الكاتب العام المساعد لجامعة البريد التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، في تصريح خاص، أن "مؤسسة البريد التونسي مساهمة في النسيج الاقتصادي وحققت أرباحاً تقدر بحوالى 46 مليون دينار (15 مليون دولار) في سنة 2022". 

ويضيف "رغم المنافسة مع البنوك يحوز البريد التونسي على حوالى 68 بالمئة من السوق المالية في تونس"، لافتاً إلى "الدور الاجتماعي الذي يقوم به البريد في تونس". 

ودعا التليلي إلى ضرورة وضع حد للشركات الموازية التي تقوم بالبيع على الخط، بعد حصولها على رخصة نقل من الدولة، إلا أنها تقوم بمهام يفترض أنها من مشمولات البريد التونسي كإيصال الطرود البريدية"، مشدداً على "ضرورة تنظيم هذا القطاع وحماية مؤسسة البريد التونسي من هذه الممارسات". 

وأشار إلى "نقص الإمكانيات والتجهيزات ووسائل العمل، والاعتماد على الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة للتقليص من استعمال الورق، وتحسين الوضعية المالية للموظفين من أجل مواكبة الغلاء ومزيد تحفيز الأعوان والموظفين".