على رغم أن دوره انحسر في مساحة ضيقة فإنه يعتبر جزءاً من الذاكرة الجزائرية، إنه "البراح" الشخصية التي ارتبطت بالمجتمع الريفي بخاصة، وهو الذي كان ينقل الأخبار ويعلن عن الفواجع والأفراح، ويقرأ الشعر في الأسواق ويرافق الفنانين في الملاهي ويذكر بالمواعيد في الأزقة ويروج لسياسات الحكومة أيضاً.
لم تنحسر مهمة "البراح" في نشر الخبر المجتمعي وصنع الفرجة وإثارة السخرية بل لجأت إليه الحكومة كوسيلة لإيصال سياستها وشرح برامجها (مواقع التواصل الاجتماعي)
تسميات ومهام
ويعتبر "البراح" باللهجة العامية الجزائرية و"المنادي" بالعربية الفصحى مهمة وظيفية وأصلها نقل خبر وتعميمه، كما هو فن من الفنون القولية أو الشفوية، على اعتبار أنه يعيد صياغة "قضية اليوم" بطريقة قصيرة وبسيطة يفهمها كل من يسمعها، مستخدماً في ذلك أدوات موسيقية أو طربية مثل الطبل أو البندير، كما يلجأ إلى مكبر للصوت لتغطية مساحة واسعة من المستمعين.
وتطلق عليه تسميات أخرى، تارة بحسب المنطقة وأخرى بسبب جوهر الموضوع، فهو "براح" إذا أعلن عن حدث معين أو ضياع غرض أو حتى طفل أو حيوان، أو يكشف عن حدث معين كقدوم مسؤول أو فوز آخر، أو حدوث تغيير داخل نظام تسيير القرية أو المدينة، كما يسمى كذلك إذا كان الغرض من عمله مدح فرد أو الثناء والإشادة بجهة ما، أو إنشاد الأغاني وقصائد الشعر، وقد يكون من وظائفه الإعلان عن دخول شهر رمضان ومناسبة العيد ووقت الإفطار وإيقاظ الناس للسحور في شكل "مسحراتي".
وهو "الناعي" إذا كان ينعى وفاة شخص معين لأهل منطقة معينة، وهي من أهم وظائف "البراح" الأساسية لا سيما في الأرياف والقرى والمدن الداخلية.
ويسمى "الخبارجي" إذا كلف بنقل أخبار ونقل أوامر الحكام وقراراتهم، وأخبار الحروب والحوادث، كما يعرف في مناطق مختلفة بـ"المداح" من مدحه، و"الفوال" الذي يجلب الحظ، و"القصاد" بسبب استعماله الشعر في الإعلان عن مهمته.
مقابل مالي
ويتحصل "البراح" على مقابل مالي يتم التفاهم عليه في بعض المناطق، فيما يترك الأمر إلى ما تجود به أيادي الخيرين من العائلات المعنية في جهات أخرى، غير أن اللافت والغريب أن المكافأة المالية مرتبطة بمكان التحرك ومدته وموضوعه، ثلاثية تجعل "البراح" في وضعية مفاوضات خفيفة، فالأسواق ليست كالأحياء الراقية، والأزقة الشعبية ليست كالشوارع الرئيسة، لكن كل ذلك ينطلق بعبارات جاذبة تارة موسيقية وأخرى حزينة بحسب المهمة، وأبرزها "اسمعوا يا سامعين، ما تسمعوا غير الخير والعافية"، و"يا ناس الحاضر يعلم الغايب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الشخصية ظهرت ما قبل الوجود العثماني في الجزائر، واستمرت إلى ما بعد استقلال البلاد في 1962، على رغم انحسار دوره ومساحة نشاطه في السنوات الأخيرة، واقتصر دوره على الأعراس والحفلات فقط، وأصبح حضوره فولكلورياً أكثر من أداء وظيفة فعلية.
جزء من الذاكرة الوطنية
في السياق، قال أستاذ علم الاجتماع أحمد ضياف إن شخصية "البراح" باتت جزءاً من الذاكرة الوطنية، فهو وسيط في توثيق تاريخ المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، عبر أشعاره الممسرحة، في قصائد موزونة وأخرى سردية، كي تستمر صلة الأجيال الجديدة مع مناقب السابقين، موضحاً أن شخصية "البراح" حاضرة على الدوام ضمن الثقافة الشعبية، خلال المناسبات الدينية والعائلية وفي مواسم الأفراح واللقاءات الجماعية، إلى جانب تأثيره في تراث الشعر الملحن. أضاف ضياف أن "دور البراح لا يقتصر على الفرجة فحسب، فهو أيضاً مؤرخ شفوي، ولعب دوراً مهماً في حفظ وأرشفة مآثر تاريخ الجزائر، وفي سرد القصص والحكايات حول المعارك في زمن الثورات الشعبية"، مشدداً على أنها مهنة شريفة ولم توجد قرية من دون "براح"، وكان هناك تنافس على من يملك أحسن "براح" وأمهرهم وأكثرهم تأثيراً في الناس.
وسيلة حكومية أيضاً
ولم تنحسر مهمة "البراح" في نشر الخبر المجتمعي وصنع الفرجة وإثارة السخرية، بل لجأت إليه الحكومة الجزائرية بطريقة غير مباشرة، كوسيلة لإيصال سياستها وشرح برامجها، في دور فشلت فيه مختلف وسائل الإعلام، إذ لم تجد مصالح الفلاحة من طريقة لإقناع المزارعين بالإقبال على "قرض الرفيق" لتمويل مشاريعهم، سوى تجنيد إطارات وموظفين مزودين بمكبرات صوت يجوبون أسواق الخضر والفواكه والماشية، من أجل الترويج لهذا الإجراء، كما يلجأ إليه التجار مع كل تهاو في القدرة الشرائية وانخفاض المبيعات، من خلال اتخاذ "البراح" الساحة المقابلة للمحل لعرض السلع بأثمان رخيصة وذكر خصائصها وجودتها لشد انتباه العابرين.
وثائقي بعنوان "ثورة البراح"
ومن أجل إعادة الاعتبار لهذه الشخصية التي تمكنت من أن تكون جزءاً من الذاكرة الجزائرية، يتم الانتهاء من إنتاج وثائقي "ثورة البراح" الذي من المقرر عرضه، في شهر يوليو (تموز) المقبل. وقال كاتب السيناريو سعيد خطيبي إنه يتناول صورة البراح كمؤرخ للذاكرة الشعبية، وهو رحلة في الذاكرة الفنية التاريخية للجزائر، موضحاً أن العمل ينطلق من الوجه الجمالي للبلاد في توثيق التقلبات التاريخية والسياسية التي عرفتها منذ 1830 إلى غاية السنوات الأولى التي تلت الاستقلال 1962، ويصغي إلى شخصيات المجتمع العميق، وإلى "البراح" في الأسواق الشعبية، وإلى شعراء "الملحون"، ويستقرئ تشكلات الهوية الفنية في الجزائر، وكيف كان الفن بديلاً عن السياسة في الحفاظ على الذاكرة الجمعية.
وتابع خطيبي أن "الوثائقي يأتي ليدعم موقع هذه الشخصية في الثقافة الشعبية، فهو الحاضر على الدوام في المناسبات الدينية والعائلية، وفي مواسم الأفراح واللقاءات الجماعية"، مضيفاً أن شخصية "البراح" يعود تاريخها إلى مسرح الحلقة، وتتقاطع مساراته مع مسارات الشعر "الملحون"، ولا يقتصر دوره على الفرجة والشق الاحتفالي، فهو أيضاً مؤرخ شفوي، لعب دوراً مهماً في حفظ وأرشفة مآثر تاريخ الجزائر، في سرد القصص والحكايات عن المعارك زمن الثورات الشعبية، فهو جزء من الذاكرة الوطنية.