"البالة"... العلامات التجارية بين أيدي "البسطاء"

منذ 1 سنة 126

حتى العقد الماضي، كان الذهاب إلى "البالة" والغوص في أكوام الملابس المستعملة بحثاً عن قطعة "لقطة" "أجنبية" مستوردة وتفوق في جودتها البضاعة المحلية لكن بأسعار مقبولة، مشهداً مألوفاً بين فئة محدودة من أبناء بعض المجتمعات العربية.

لكن في الحقيقة، فإن قلة من هؤلاء كانوا يعترفون ويصرحون علناً بأنهم اشتروا هذه القطعة من ذلك المكان، وليس من بيتها الأصلي، أي من الخارج مثل باريس وغيرها من مدن الموضة العالمية.

وقد أوحت هذه المعادلة (بين الشراء من البالة، والخجل منها) لصناع الدراما مثل المخرج الراحل حاتم علي الذي تناولها في إطار ساخر ونقدي في حلقة "شادو جاردان" من مسلسل "الفصول الأربعة"، إلا أن السخرية وقتها لم تكن من فكرة الملابس المستعملة، وإنما من فكرة تهافت بعض الطبقات على شرائها والتباهي بها ليظلوا في المستوى الاجتماعي الوهمي "الرفيع" الذي رسموه لأنفسهم.

المعادلة ذاتها، تطرق لها أيضاً مسلسل "مرايا" من بطولة ياسر العظمة، طارحاً شخصية "زوجة مسؤول" تشتري الملابس الفاخرة المستوردة من "البالة" وتقول لصديقاتها إنها جاءتها كهدية ثمينة جداً وهي مصنوعة من فرو دب في روسيا، وعندما تتم مواجهتها بأنها من البالة، تنكر بشدة وتهدد بأن يرسل زوجها "عناصره" حتى يضع حداً لمثل هذه الأكاذيب.

33.jpg

ما هي البالة؟

يشير مصطلح ملابس البالة إلى الملابس المستعملة التي يتم استيرادها عادة من أوروبا ومن بعض الدول التي تزدهر فيها صناعة الألبسة ذات الجودة العالية، لكن عندما تصل هذه الملابس إلى الأسواق المحلية، تباع في محلات متواضعة أو في أكشاك أو على "بسطات"، تشكل إلى جانب بعضها بعضاً سوقاً تسمى "البالة"..

أما اسم البالة، فقد اشتق من الكلمة الإنجليزية bale التي تعني الحزمة، ذلك لأن تلك الملابس تأتي مجمعة عشوائياً بحزم تباع بالكيلو، حتى أنها في كثير من الأحيان تعرض أمام الزبون في أكوام وعليه هو مهمة الغوص مطولاً بحثاً عن قطعة تناسب احتياجاته الطبقية أو الوظيفية فقط.

وإن كانت أسواق "البالة" حتى العقد الماضي مقصداً لبعض الناس، صارت تلقى في السنوات الأخيرة إقبالاً متزايداً من كثيرين، بالتزامن مع الانهيارات الاقتصادية التي عصفت بعديد من الدول العربية وأضعفت القدرة الشرائية لدى المواطنين.

 في سوريا على سبيل المثال، أصبح من الصعب على الموظف العادي الذي يستلم في نهاية كل شهر مرتباً يبلغ حوالى 10 دولارات أو أقل، أن يشتري قطعة جديدة تبلغ كلفتها أضعاف راتبه، لذا ترى هذا الموظف البسيط وغيره من أولئك الذين يعانون من تبعات تدني مستوى الليرة السورية، يزورون حي الإطفائية الشهير في دمشق، الذي يحتضن عشرات محلات البالة.

مع العلم أن بقية المحافظات فيها أسواق مشابهة بما يكفي لسد حاجة السوريين من "السترة" و"الدفء"، وعلى رغم محاولة الحكومة حظر هذه التجارة من أجل حماية الصناعة الوطنية، غير أنها لم تستطع، فقد فرضت "البالة" نفسها في المجتمع مدعومة بالتدهور الاقتصادي السريع والشديد في البلد.

وبالتزامن مع هذا الانتشار، انحسر الخجل من اقتناء الملابس من البالة إلى درجة قد يكون اختفى فيها، وصار السؤال عن أن هذه القطعة أو تلك من البالة لا يحتاج جواباً.

الانتشار الواسع لمحلات وألبسة "البالة"، لم يظهر في سوريا فقط، إذ يكفي أن تكتب على محرك البحث غوغل "سوق بالة" حتى تظهر لك نتائج على الخريطة في مصر وتونس والجزائر ولبنان والأردن والعراق.

55.jpg

متى بدأ شراء الملابس المستعملة؟

عرف الإنسان أسواق الأغراض المستعملة منذ القدم، ففي اليونان القديمة ومصر الفرعونية، كان يتم بيع الملابس والفخار والسيراميك وغيرها من التحف المستعملة في ما يشبه "البسطات" وأكشاك الشوارع..

ووفقاً لهيرودوت، ابتكر الرومان المزادات التي عرضوا فيها للبيع أغراضهم وأشياءهم التي استعملوها ولأسباب مختلفة، وصار تبادل الإنسان للسلع أمراً شائعاً.

كما استمرت هذه الأسواق حتى العصور الوسطى، وكان الناس يعرضون خلالها قطعهم الثمينة والفاخرة للبيع بأسعار أقل من أسعارها وهي جديدة، من أجل الذهاب إلى الحج أو من أجل تمويل حملات الحروب وغيرها من الأسباب.  

حينها انتشر الباعة المتجولون بكثرة، وصاروا يمشون في الشوارع ويعرضون على السكان قطعاً مستعملة باعها آخرون، فيما أخذ الزبائن ينهالون عليهم لاستغلال الفرصة وشراء ما هو ثمين بأسعار رخيصة. ويمكننا القول إن الباعة في تلك الفترة، احتكروا عملية البيع والشراء لكل ما هو مستعمل، ولم تعد هذه العملية تتم إلا من خلالهم.

ومن فرنسا، بدأ في عهد لويس الرابع عشر، إجبار تجار الأغراض المستعملة على تسجيل مصدر بضاعتهم وإثبات من أين اشتروها، وذلك كمحاولة من الملك لتنظيم التجارة الجديدة وضمان أن تلك الأغراض المباعة ليست مسروقة، وفي حال لم يسجل البائع بضاعته، فإنه كان يتعرض للملاحقة القضائية ويمنع من البيع.

تطورت العملية في السنوات اللاحقة، إلى أن أصبحت تجارة القطع والملابس المستعملة رائجة وقانونية كغيرها من المهن في القرن الثامن عشر، وأصبح الشخص الذي يبيع "المستعمل" صاحب عمل حقيقي وموثق في الدولة.

44.jpg

لم تعد حكرا على التجار

مع قيام الثورة الفرنسية تحولت المقتنيات الثمينة للعائلة المالكة وطبقة النبلاء والأثرياء إلى ملكية وطنية، وتم بيع عدد من الأشياء والقطع علناً لصالح الخزانة العامة في البلاد، الأمر الذي عزز جمع التحف والقطع الأثرية النفيسة، وعزز في الوقت نفسه بيعها وإعادة شرائها.

لكن تلك العادة التي تحولت إلى تجارة، ظلت حكراً على التجار حتى الحرب العالمية الأولى التي فرضت نمطاً معيشياً صعباً للغاية، دفع الناس المتأثرين من سنين القتال الفظيعة في الدول الأوروبية إلى بيع أغراضهم وأشيائهم لسد احتياجاتهم الأساسية من الطعام والملابس والأدوات الضرورية.

منذ ذلك الوقت، ترسخ بيع الأوروبيين أغراضهم في ما بينهم، وأوجدت الحكومات والبلديات مجموعة من القوانين والمعاملات المنظمة لهم، وصارت كل مدينة أو بلدية تعلن عن يوم يبيع الناس فيه ما فاض عن حاجتهم، حتى إنه في بعض الدول يسمى بيوم "المرأب" نسبة إلى الأغراض التي توضع في المرأب بشكل عشوائي ربما، بانتظار التخلص منها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعلن عن هذا اليوم قبل أسابيع تقريباً، وعلى الراغبين بالمشاركة التوجه إلى البلدية وتقديم طلب اشتراك ودفع الرسوم الرمزية، التي لا تتجاوز ثلاثة يورو لكل متر يريد الشخص حجزه ليعرض بضاعته فيه.

وتقع على البلدية مهمة تنظيم السوق وتوفير أكشاك وطاولات للطعام التقليدي، الأمر الذي يضفي على الحدث طابعاً طقسياً واحتفالياً يجمع أهل المدينة الذين يتبادلون في ما بينهم أغراضهم المستعملة بأسعار رخيصة جداً، تبدأ أحياناً من نصف يورو.

من جانب آخر، انتشرت المواقع الإلكترونية التي تعرض قطعاً مستعملة للبيع، بدءاً من الكتب والملابس والمفروشات وصولاً إلى السيارات. وبالطبع هناك قوانين تحكم المعاملات بين الناس على هذه المواقع، غير أنها غالباً ما تكون بسيطة وواضحة بما يسهل استخدامها من جميع فئات المجتمع.

وحتى صفحاتنا على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، صار بإمكانك أن تجد فيها أيقونة "marketplace" التي ما إن تنقر عليها، حتى تنقلك إلى عروض متنوعة من الأغراض والأدوات المستعملة، يقدمها لك أشخاص يسكنون في منطقتك الجغرافية أو حولها، كما بإمكانك أنت أيضاً رفع صور وتوصيف لأشياء ترغب ببيعها، وعلى الصفحة الزرقاء الافتراضية ستجد حتماً كثيراً من المشترين الباحثين عن صفقات جيدة.