الباب الصيني والزائر الهندي

منذ 1 سنة 207

كان ذلك في 1971. استقبلت الصين سراً زائراً غريباً ومجهولاً وصعباً اسمه هنري كيسنجر. كانت الصين تعيش يومَها في ظل «الربان العظيم» وكان اسمه ماو تسي تونغ. لم يكن سهلاً على إدارة ريتشارد نيكسون أن توفدَ وزير خارجيتها إلى بلاد الرجل الذي كان يعتبر «الإمبريالية نمراً من ورق» والذي أسال نهراً من دم الأميركيين حين شارك في استنزاف العدو الأميركي في حربي كوريا وفيتنام. استثمر كيسنجر العداء الشديد بين العاصمتين الشيوعيتين الأبرز وهما بكين وموسكو. افتتح القارة الصينية التي لا تشبه بلاده ومكّن واشنطن من توظيف «الورقة الصينية» في لجم الاتحاد السوفياتي وترويضه. بعد 11 عاماً من تلك الزيارة التاريخية، وُلد في أميركا الرجل الذي يجلس حالياً في «مكتب هنري كيسنجر» ويقرع اليوم البوابة الصينية واسمه أنتوني بلينكن.

بعد ما يزيد على نصف قرن يتوجه بلينكن إلى البلد نفسه. لا يحتاج إلى مَن يذكره أنه يزور صيناً أخرى في عالم آخر. الصين الحالية ليست صين ماو التي تعج بمئات ملايين الفقراء والتي يتعثر اقتصادها بالوصفات الآيديولوجية الجامدة. أسعفها الحظ حين أنجبت بعد ماو رجلاً مسكوناً بالمستقبل لا بالماضي. دس دينغ هسياو بينغ في عروق بلاده وحزبها الحاكم قطرة من الواقعية لمصالحتها مع العصر. ترك ماو مبجلاً لكنه منعه من قيادة البلاد من ضريحه. دفع الشعارات القديمة إلى الثلاجة وانهمك بمفردات التقدم والتنمية ومكافحة الفقر والإفادة من آليات التقدم بعيداً من عوائق الأصولية الآيديولوجية وأقفاصها. الصين التي يزورها بلينكن هي الصين التي أخرجت نحو 700 مليون مواطن من الفقر. إنها اليوم قلعة اقتصادية وتكنولوجية دينامية ومنافسة وتتكئ أيضاً على جيش متعاظم القوة. إنها قوة لا بد منها لتفادي اندفاع العالم نحو هاوية وخيمة العواقب.

تأتي الزيارة في عالم لا يشبه أبداً عالم زيارة كيسنجر الشهيرة. انتحرت الإمبراطورية السوفياتية، وها هي تنام في المتاحف والكتب. ومن رمادها ولدت روسيا التي تعيش اليوم في ظل محارب مجروح اسمه فلاديمير بوتين يقود تمرداً عسكرياً وسياسياً هائلاً على عالم القوة العظمى الوحيدة الذي ولد من ركام جدار برلين والركام السوفياتي. ألقى بوتين حجراً متفجراً هائلاً في بحيرة العالم. وإذا كانت بصمات ميخائيل غورباتشوف ألغت العالم الذي ولد من الحرب العالمية الثانية حاملاً أيضاً بصمات جوزف ستالين ودوره الكبير في ردع ألمانيا النازية فإن بصمات بوتين دفعت إلى الهاوية العالم الذي يحمل بصمات غورباتشوف.

تلقى عالم القطب الواحد طعنة قاتلة. الاضطراب الدولي الحالي يحمل عنواناً واضحاً. إننا نبحر اليوم في مخاض ولادة عالم متعدد الأقطاب مفتوح على أخطار كثيرة. كانت أميركا تطوع استراتيجيتها لاحتواء العدو الجديد. الصعود الصيني السريع أكبر من قدرة أميركا على الاحتمال. القصة أبعد من جاذبية «طريق الحرير». تتعلق القصة بملامح انقلاب كبير في نادي الكبار. واضح أن بلينكن يسعى إلى التكيف مع مرحلة الأخطار الجديدة. لا مصلحة لأميركا في رؤية الصين تذهب بعيداً في دعم الغزو الأميركي لأوكرانيا. لا بد من هدنة تدفع الصين إلى الاستمرار في سياسة واقعية تسمح لواشنطن بتحقيق هدفها في منع روسيا من الخروج منتصرة من مستنقع الدم الأوكراني. هدنة تسهل إرجاء انفجار ملف تايوان إذ لا قدرة للعالم على مواجهة عبوتين ناسفتين هائلتين في وقت واحد.

لا مصلحة للصين أيضاً في مواجهة حادة مع الغرب. مواجهة من هذا النوع ستهدد علاقاتها الاقتصادية الواسعة والحيوية مع أميركا والاتحاد الأوروبي. لكن الصين البارعة في استخدام سلاح الصبر في التفاوض تريد ضمانات بأن أميركا لن تستفردها في سباق شبيه بالذي أدى إلى تدمير الاتحاد السوفياتي.

زيارة كبرى أخرى يشهدها العالم في الأسبوع الحالي. رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي سيحل ضيفاً عزيزاً في البيت الأبيض في زيارة دولة قد تتحول تاريخية وعلامة فارقة في العالم الذي يبحث عن توازنات جديدة في عالم متعدد الأقطاب. واضح أن أميركا استنتجت أن من المستحيل احتواء الصعود الصيني المتسارع من دون الاتكاء على عملاق آسيوي آخر هو الهند. بلاد مودي هي الأكبر سكانياً في العالم. إنها سوق هائلة توفر عمالة رخيصة، وتمتلك قدرات تكنولوجية حية وتعيش في ظل ديمقراطية تتقاسم بعض القيم مع الغرب على رغم خصوصياتها. يتزايد اعتقاد الغرب أن عليه تدارك خطر بقاء الصين تتمتع بصفة «مصنع العالم».

سياسات مودي تتسم بقدر غير قليل من الواقعية. أكثر من نصف سلاح جيشه روسي. وامتنع حتى الساعة عن إدانة صريحة للغزو الروسي لأوكرانيا. ثم إن الهند عضو بارز في «بريكس» و«منظمة شنغهاي للتعاون». لن يكون سهلاً لأميركا استخدام «الورقة الهندية» لكبح صعود العملاق الصيني على غرار ما استخدمت «الورقة الصينية» لكبح طموحات الاتحاد السوفياتي. العالم مختلف وأوراق القوة مختلفة، لكن أي قرار أميركي حاسم بتعميق التعاون العسكري والتبادل التكنولوجي مع الهند سيشكل تطوراً آسيوياً ودولياً مهماً. إرساء قواعد تحالف جدي بين أميركا والهند يشمل أيضاً اليابان وكوريا الجنوبية سيبلور رسالة قوية للصين، وعلامة فارقة في العالم الباحث عن إعادة ترتيب المقاعد في نادي الكبار.

ماذا يمكن أن تفعل الدول الأخرى في العالم المضطرب الباحث عن توازنات جديدة؟ في مرحلة التحول هذه سيكون هناك مكان للدول التي تحسن قراءة التحولات. للدول القادرة على إعداد اقتصاداتها لعالم التنافس والسباق التكنولوجي وبناء علاقات متنوعة على قاعدة المصالح المشتركة وتبادل الخبرات. للدول الحية التي يدعم اقتصادها الحي استقلالية قرارها وحرية خياراتها. وفي العلاقات الدولية زواج المصلحة أفضل بكثير من زواج العواطف.