الاقتصاد الألماني على المحك

منذ 11 أشهر 124

الاقتصاد الألماني تحت الضغط، هذا هو عنوان هذا العام في ألمانيا، فالتوقعات الاقتصادية تشير إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 0.5 في المائة ليصبح البلد صاحب أسوأ أداء اقتصادي ضمن الدول الصناعية الكبرى، والعام المقبل قد لا يختلف كثيرا عن هذا العام لاستمرار نفس مسببات الوضع الحالي. وألمانيا ليست دولة هامشية، فهي إحدى مجموعة دول السبع وهي الصخرة التي يتكئ عليها الاقتصاد الأوروبي بأكمله. فكيف وصلت ألمانيا للوضع الحالي؟ وما هي المؤشرات التي دللت على وضعها الاقتصادي؟ وكيف لها أن تخرج من هذا المأزق؟

البداية مع التجارة أو الصادرات الألمانية، حيث استفادت ألمانيا وبشدة من نمو الصين خلال العقود الثلاثة الماضية، ففي حين لم تزد صادراتها للصين عن 6.6 مليار دولار في منتصف التسعينات الميلادية، زادت هذه الصادرات سنويا بنسبة 11 في المائة لتصل إلى 121 مليارا في عام 2021. وعلاقة ألمانيا التجارية مع الصين فريدة من نوعها، فهي قائمة على الصناعة من نواحٍ متعددة، فهي تصدّر إلى الصين المنتجات الاستهلاكية، والآليات التي تستخدم في الصناعة، كما تبيع هذه الآليات كذلك للدول التي تصدّر السلع الاستهلاكية للصين. وهذه العلاقة جعلت ألمانيا ثالث أكبر مصدّر عالمي وساهمت في نموها الاقتصادي بشكل عام ونموها الصناعي بشكل خاص. وعندما عانت الصين اقتصاديا خلال العامين الماضيين، تأثرت ألمانيا وبشدة كما لم تتأثر دولة أخرى، كونها عانت من جميع هذه النواحي الثلاث.

والصناعة الألمانية تضررت كذلك كما كان متوقعا من الأزمة الروسية الأوكرانية، فقد أدمنت ألمانيا على الطاقة الرخيصة المولّدة من الغاز الروسي، وألمانيا تعتمد بشكل كبير على الصناعات ذات الاستخدام الكثيف للطاقة مثل البتروكيماويات، ويكفي معرفة أن مصنعا واحدا ألمانيا وهو (بي أي إس إف) في مدينة لودفيغسهافن الألمانية يستهلك يومياً من الطاقة ما تستهلكه سويسرا بأكملها. ولذلك فمن غير المستغرب أن تتأثر الصناعة الألمانية سواء كثيفة الاستخدام للطاقة أو غيرها، فنقص إنتاج الأولى نحو 17 في المائة مقارنة بإنتاج بداية عام 2022، بينما انخفض الإنتاج الصناعي لألمانيا بأكملها نحو 7 في المائة مقارنة بمنتصف عام 2019. ولذلك فإن العديد من المصانع الألمانية حاليا تبحث عن بدائل للانتقال خارج البلاد بحثا عن مناطق تقل فيها نسبة عدم اليقين، وتزيد فيها فرص الوصول الآمن للطاقة ذات السعر المعتدل. وتشير الإحصائيات إلى أن معدل الاستثمارات الأجنبية انخفض في العامين الأخيرين بنسبة 50 في المائة، وهي نسبة مخيفة دون أدنى شك، وهي مؤشر على أن الوضع الراهن جعل الشركات تحجم عن الاستثمار في ألمانيا.

والنموذج الألماني يعتمد بشكل كبير على الصناعة، وعلى رغبة المستهلكين في الصناعات الألمانية، وهو ما جعل الصناعات الألمانية خاضعة ومرتبطة بشكل شبه كامل بنمو الطلب العالمي. ولذلك وعندما تأثر العالم بعدد من المشكلات التي جعلته تحت الضغط الاقتصادي، كانت الصناعات الألمانية في طليعة القطاعات المتضررة. وما زاد الطين بلة أن ألمانيا وضعت ثقلها في هذا القطاع دون أن تنوع في قطاعات أخرى. فقطاع التقنية في ألمانيا على سبيل المثال متأخر مقارنة بالدول الأوروبية، وجاءت ألمانيا في المركز العاشر في الابتكار خلف دول مثل سويسرا والدنمارك. والسبب في ذلك ليس قلة الأفكار الابتكارية في ألمانيا، فهي أكبر دولة من ناحية إنتاج براءات الاختراع في أوروبا، ولكن تحويل هذه البراءات إلى أعمال تجارية لا يتناسب مع دولة صناعية متقدمة، والسبب في ذلك هو ضَعف الدعم الحكومي لهذه الابتكارات. وتأسيس الأعمال التجارية نفسها معقدة في ألمانيا حيث تبلغ المدة المطلوبة لإنشاء شركة نحو 120 يوما من الإجراءات الحكومية، مقارنة بـ40 يوما في دول مثل إيطاليا واليونان.

وليست الصناعة الألمانية وحدها التي تأثرت، فقطاع الإنشاءات في ألمانيا نال نصيبه من الوضع الاقتصادي، لأسباب منها ارتفاع نسبة الفائدة. وتكمن أهمية هذا القطاع في أنه يشكل نحو 6 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، ويوظف واحدا من كل عشرة موظفين. وتشير الدراسات إلى أن أداء هذا القطاع انخفض إلى أقل مستوياته منذ منتصف عام 2005، وقد ألغيت نحو 22 في المائة من المشاريع السكنية في ألمانيا هذا العام وهي أكبر نسبة منذ بداية التسعينات الميلادية، كما انخفضت الطلبات الجديدة للإنشاءات. وقد عانى هذا القطاع في السابق من البيروقراطية الحكومية، حيث تستغرق تصاريح الإنشاءات في ألمانيا أطول من مثيلاتها في الدول الصناعية بنحو 50 في المائة. كما أن ارتفاع معدل الديون الحكومية وتشديد الدول على معايير الديون وضع قطاع الإنشاءات في حرج لكونه أحد أكثر القطاعات اعتمادا على الديون.

إن الوضع الاقتصادي في ألمانيا لا يتناسب مع طبيعتها كأقوى اقتصاد أوروبي، وأسباب الوضع الاقتصادي لا ترتبط بالأحداث العالمية، بل بهيكلة الاقتصاد الألماني نفسه والسياسات الحكومية المتبعة في السنوات الماضية. فألمانيا لم تستثمر في اقتصادها كبقية الدول الأوروبية، ولذلك فإن العام المقبل لن يختلف عن هذا العام كثيرا مهما كانت التغيرات العالمية. والخيار الوحيد لألمانيا للخروج من هذا المأزق هو إعادة هيكلة اقتصادها ليتناسب مع التوجهات المستقبلية للعالم، بالطبع دون إنكار أهمية صناعاتها الجوهرية.