بين نظرية القطب الواحد والولايات المتحدة، كما يطرح في الأدبيات الكلاسيكية، والصعود الصيني الذي عكسه الحضور الكبير الأخير في الرياض، أريق حبر كثير على مستوى الصحافة الغربية يعبر عن مخاوف السياسيين الغربيين، وبدرجة عكسية فهم مراكز الأبحاث والدراسات للتحولات الجديدة في المنطقة، بالأخص الأوزان السياسية لدول المنطقة، في مقدمتها السعودية وتحديات المرحلة المقبلة، وكان من أبرز توابع ذلك إعادة طرح مسألة الاشتباك الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يتجاهل مسألتين؛ السيادة لدول المنطقة، إضافة إلى تعدد اللاعبين والمصالح والانتقال من التحالف إلى الشراكات غير المشروطة، خصوصاً بملفات أصبحت محمولة برافعات آيديولوجية كملف الحقوق والشعارات المتصلة به، والهويات الفرعية والثقافات، وصولاً إلى تسييس ملف الطاقة.
دار لغط كثير على خلفية عدم القبول بتحولات الأوزان الثقافية اليوم والاعتراف بالصعود السعودي على أكثر من مستوى، وكان من جملتها مسألة الوساطة بين روسيا والولايات المتحدة بشأن إطلاق سراح لاعبة كرة السلة الأميركية بريتني غرينر، والقنوات الدبلوماسية التي نجحت السعودية في إطلاقها ضمن توجيه مباشر من ولي العهد كجزء من صعود السياسة الخارجية، وهو ما تم الاعتراف به من قبل مراكز أبحاث أميركية، منها تقرير لبينت نيوهوف المستشار في «معهد واشنطن»، الذي أكد أن «ولي العهد السعودي أحد قادة العالم القلائل الذين لديهم الرغبة وإمكانية الوصول اللازمتين لخلق مساحة من عمل الدبلوماسية، وتأثيرها على الحرب في أوكرانيا».
وإذا أضفنا إلى ذلك إعادة موضعة السعودية «Repositioning» كلاعب أساسي في الشرق الأوسط قادر على توسيع نطاق الشراكات الاقتصادية والتأثير على مستقبل المنطقة، يمكننا فهم إعادة طرح مسألة الشرق الأوسط مجدداً كمنطقة اهتمام للقوى الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة، وهو ما جاء على لسان الرئيس بايدن، الذي صرح بأن أميركا «لن تنسحب من الشرق الأوسط، ولن تترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران».
وبعيداً عن تصريحات الإدارة الأميركية، فإن ما توده دول المنطقة عطفاً على قراءة السياقات لإيقاع سياساتها الخارجية، يؤكد أنها لا تريد أن تكون رهينة حالة الاشتباك السياسي هذه، قدر أنها تؤمن بأنها قادرة على خلق شراكات استراتيجية مبنية على صناعة مستقبل أفضل وعلى حفظ أمنها وسيادتها، وبلغة أخرى مصلحة الشرق الأوسط تتمثل في توازن استراتيجي، وليس محاولات للرد على النفوذ الصيني، حسب التوصيف الغربي، أو الشراكات الجديدة، حسب رؤية دول المنطقة، خصوصاً مع حالة التخلي على مستوى التعامل الجدي مع الخطر الإيراني ومشروع طهران تجاه دول المنطقة بعيداً عن شعارات التهدئة المرسلة بين حين وآخر، فالدرس الذي تعلمته دول الخليج، والسعودية على وجه الخصوص، حول حالة «التخلي» الأميركي، التي بدأت حتى قبل وصول إدارة بايدن، عزز لديها مسألة أولوية أمنها بعد أن مرت حادثة تفجير منشآت النفط من دون موقف حازم، أو ما يعرف بالخط الأحمر الاستراتيجي في أدبيات التصريحات فيما يخص إمدادات الطاقة.
حسب مراقبين أميركيين، هناك فرصة سانحة للإدارة الأميركية خلال السنتين المقبلتين لبلورة استراتيجية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط من شأنها إقناع شركائها الإقليميين بأن الولايات المتحدة قادرة على تلبية احتياجاتهم، خصوصاً في الشق الأمني والالتزام ضد التهديدات الخارجية، لا سيما أنه يترشح فشل الدبلوماسية الحثيثة وسياسة الأيادي الممدودة التي جربتها الدول الغربية بدوافع براغماتية في منع نظام طهران من حيازة سلاح نووي.
المنطقة تحتاج إلى ثقة مبنية على موقف جديد تفصيلي وواضح، حسب الخبراء الأميركيين قبل غيرهم بعيداً عما وصفوه بالمراوغة، والوعود الفضفاضة جداً، أو حتى التي توحي بأنها متضاربة يصعب معها معرفة شكل السياسات الأميركية.
الأكيد أنه بدون هذا الوضوح، فإن قائمة الدول التي تتجه إلى شق مسارها الخاص بمعزل عن واشنطن تتسع، وربما يصح القول أيضاً هنا إن إسرائيل التي تهم واشنطن على رأس تلك الدول في الاهتمام بمسارها الخاص في ظل التهديدات الإيرانية التي تزداد مع تأكد حالة الفشل في الوصول إلى مفاوضات بشأن طموحاتها النووية عطفاً على سلوكها في المنطقة.