الاتفاق على إنَّ شوقي شاعر الأخلاق

منذ 1 سنة 183

يُقال إنَّ شاعراً لم يتوافرْ شعرُه على الدعوةِ إلى الأخلاق، مثلَ أميرِ الشعراء، أحمد شوقي، قيلَ: إنَّ بيتَه الشهير عن الأخلاقِ، هو ديوانٌ من الشعر، تَتجلَّى فيه حكمةٌ أزليةٌ، قوامُها أنَّ الأخلاقَ هي أساسُ حياةِ الأمم، وسبيلُها إلى العظمةِ والمجد، وأنَّ رقيَّ الأممِ مرتبطٌ بزيادة أخلاقِها، وعلى العكسِ من ذلك، فإنَّ اضمحلالَ الحضاراتِ والأمم، مقترنٌ بتخلّيهَا عن الأخلاق، وفي البيت:
وإنَّمَا الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ فإنْ همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبُوا
ويقول:
وإِنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ فإِن تَوَلَّتْ مَضَوْا في إِثرِها قُدمَا
فمَا على المرءِ في الأخلاقِ من حَرَجٍ إِذَا رعَى صلةً في اللهِ أو رَحِمَا
وهذا المعنى مستفيضٌ منتشرٌ في شعر أحمد شوقي، حتى أُطلقَ عليه لقب: «شاعر الأخلاق»، فمن حثِّه الدؤوبِ على مكارم الأخلاق، قوله:
وإذا أُصيبَ القومُ في أَخلَاقِهِم فَأَقِم عَلَيهِم مَأْتَمَاً وَعَوِيْلَا
وإذا زعمَ بعضهم أنَّ التسلحَ وسيلةُ النصر، اشرأَبَ شوقي، مفنداً هذا الزعمَ، فقال:
ومَا السِلَاحُ لِقَومٍ كُلَّ عُدَتِهِم حَتى يَكُونُوا مِنْ الأَخْلَاقِ فِي أُهبِ
يقول شوقي مادحاً النبي عليه السَّلام:
بَنَيتَ لَهُم مِنَ الأَخلاقِ رُكناً فَخانُوا الرُكنَ فَانهَدَمَ اضطِرابَا
وَكانَ جَنابُهُم فيها مَهيباً وَلَلأَخلاقِ أَجدَرُ أَن تُهابَا
رُويَ في الأثر: «إنَّ لكلِّ مُسِيءٍ توبةً، إلا صاحبَ سوءِ الخُلُقِ؛ فإنَّه لا يتوبُ من ذنبٍ إلا وقعَ في شرٍّ منه»!
لذلك رأى شوقي أن ركنَ العز في المُلك هو البناء الأخلاقي:
على الأخلاقِ خُطُّوا المُلكَ وابنُوا فليس وراءَها للعِزِ رُكنُ
وكما تأثَّر بالصحف التي جعلها آيةَ زمانه، عدَّ شوقي (مانشيت) صحيفةِ المجد والشرف الرفيع، وعنوانها الرئيس، هو الأخلاق، إذ قال:
المجدُ والشرفُ الرفيعُ صحيفةٌ جُعلَت لها الأخلاق كالعنوانِ
والخُلُقُ هو أُسُّ البنيان عند شوقي، فإذا أصابَه الوهي تخلخل الأساس، وكيف يقوم بنيان بلا أساس؟:
وإذا ما أصاب بُنيانَ قوم وَهيُ خُلقٍ فإنه وَهيُ أُسِّ
وكثيراً ما يربط أمير الشعراء بين صلاحِ الناس، وصلاح الأفرادِ بالتزامهم الأخلاقَ، فيقول:
كذا الناسُ بالأخلاقِ يبقَى صلاحُهم ويذهبُ عنهم أمرُهم حين تذهبُ
وأجمِلْ بقوله:
صلاحُ أمرِك للأخلاقِ مَرجعُه فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تستقِمِ
والنفسُ من خيرها في خيرِ عافيةٍ والنفسُ من شَرِها في مَرتَعٍ وَخِمِ
وبرأيه، فجراحُ السيوف تَبْرَأ، خلافاً لعثرات الأخلاق:
ولقد يُقامُ من السيوفِ وليس مِن عثراتِ أخلاقِ الشعوبِ قيامُ
يقول شوقي:
وكان جنابُهمْ فيها مَهيبَا ولَلأخلاقُ أجدرُ أن تُهابَا
وليس بعامرٍ بنيانُ قومٍ إذا أخلاقُهم كانت خرابَا
وعنده أنَّ من تصبْه المصائبُ لا تقتله، إنْ سلمت الأخلاقُ من الإصابة:
ولا المصائبُ إذ يُرمَى الرجالُ بها بقاتلاتٍ إذا الأخلاق لم تُصَبِ
والأخلاق جمع: خُلُق، والخُلُقُ في اللغة: الطبع والسجية. وفي اصطلاحِ العلماء -كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالي، رحمه الله: الخلق «هيئة في النفسِ راسخة، تصدر عنها الأفعالُ بسهولة ويسر، من غير حاجةٍ إلى فكر وروية».
قال ابن منظور: «والخُلُق الخَلِيقة أَعني الطَّبِيعة. وَفِي التَّنْزِيلِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَالْجَمْعُ أَخْلاق، لَا يُكسّر عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. والخُلْق والخُلُق: السَّجِيّة. يُقَالُ: خالِصِ المُؤْمنَ وخالِقِ الْفَاجِرَ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ شَيْءٌ فِي الْمِيزَانِ أَثْقلَ مِنْ حُسن الخُلُق؛ الخُلُقُ، بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا: وَهُوَ الدِّين والطبْع وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنه لِصورة الإِنسان الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نفْسه وأَوصافها وَمَعَانِيهَا المختصةُ بِها بِمَنْزِلَةِ الخَلْق لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وأَوصافها وَمَعَانِيهَا، وَلَهُمَا أَوصاف حسَنة وَقَبِيحَةٌ، والثوابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بأَوصاف الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكثر مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بأَوصاف الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِهَذَا تَكَرَّرَتِ الأَحاديث فِي مَدح حُسن الْخُلُقِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: مِن أَكثر مَا يُدخل الناسَ الجنَّةَ تَقْوَى اللَّهِ وحُسْنُ الْخُلُقِ، وقولِه: أَكملُ المؤْمنين إِيماناً أَحْسنُهم خلُقاً، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْعَبْدَ ليُدرك بحُسن خُلقه درجةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَقَوْلُهُ: بُعِثتُ لأُتَمِّم مَكارِم الأَخلاق».
قال الجُرجانِي في (التعريفات): «الخُلق: عبارةٌ عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئةُ بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا وشرعاً بسهولة، سُميت الهيئة: خُلقاً حسناً، وإن كان الصادرُ منها الأفعالَ القبيحة، سميت الهيئة: خُلقاً سيئاً، وإنما قلنا: إنَّه هيئة راسخة؛ لأنَّ من يصدر منه بذل المال على الندور بحالةٍ عارضة لا يقال: خُلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه، وكذلك مَن تكلَّف السكوت عند الغضب بجهد أو روية لا يقال: خُلقه الحلم، وليس الخُلق عبارة عن الفعل، فرُبّ شخصٍ خُلقه السخاء، ولا يبذل، إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل، لباعث أو رياء».وإذا كانَ البحتري يقول:
وما هذهِ الأخلاقُ إِلا مواهبٌ وإِلا حظوظٌ في الرجالِ تُقَسَّمُ
فهل صحيح أنَّ الأخلاق جبليَّة، أم أنَّها مكتسبة؟
أحسب أنَّ معروف الرصافي أجاب عن السؤال بقوله:
هي الأَخْلاقُ تَنْبُتُ كالنباتِ إِذا سُقيتْ بماءِ المكرماتِ
فكيفَ تظنُّ بالأبناءِ خيراً إِذا نشأوا بحضنِ السافلاتِ
وانتصر له جميل صدقي الزهاوي، فقال:
من البيئةِ الأخلاقُ تنشأُ في الفتى فتلكَ به في كلِّ يومٍ تؤثرُ
وهذا رأي جرير، إذ يرى أن ممارسة العادة تورّث الطبع:
تعودْ صالحَ الأخلاقِ إِنّي رأيتُ المرءَ يلزمُ ما استعادا
وكما في الحديث: «إن العلم بالتعلم، والحِلم بالتحلم»، لا يُبعِد أبو تمَّام الأخلاق عن العلم والحلم، فيقول:
فلم أجدِ الأخلاقَ إِلا تخلقاً ولم أجدِ الأفضالَ إِلا تَفَضُّلا