القمة العربية في الرياض وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، حدثان رئيسان سيسِمان الوضع الإقليمي، ويأتيان وسط متغيرات عميقة في العلاقات البينية، أهمها المصالحة السعودية - الإيرانية وما سيتأتى عنها. هذان الحدثان على مفصليتهما، لا يحجبان الأنظار عن حدثين آخرين على الأمن الإقليمي: الأول هو العمليات العسكرية في غزة بين إسرائيل وحركة «الجهاد الإسلامي» التي شهدها الأسبوع الفائت على ضوء وفاة الأسير الفلسطيني خضر العدنان، والثاني سبقها، وهو الحراك الداخلي في إسرائيل عقب الاحتجاجات غير المسبوقة بشأن الإصلاح القضائي المثير للجدل الذي اقترحته حكومة بنيامين نتنياهو المتشددة.
تمر إسرائيل اليوم بأكثر مراحل تاريخها انقساماً واستقطاباً. وإذا كانت جميع أحزاب الائتلاف الحاكم مؤيدة للإصلاحات التي تقلص الاستقلالية القضائية، تبقى الدوافع التي تؤجج حماستها لها مختلفة. نتنياهو ورئيس حركة «شاس» الحاخام آرييه درعي يؤيدانها لأسباب شخصية تتلخص في الإفلات من العقاب. الأحزاب الحريدية تريدها لتتمكن من سن قوانين تكرّس الطابع الديني للدولة، وحركتا القوة اليهودية والصهيونية الدينية وحزب «الليكود» يسعون إليها لإزالة العقبات القانونية التي تحول دون حسم الصراع مع الفلسطينيين. في مواجهة نوايا الائتلاف الحاكم على اختلافها، تقف القوى السياسية والمجتمعية الليبرالية المعارضة للإصلاحات القضائية على خلفية حرصها على «الديمقراطية» الإسرائيلية.
هل من علاقة بين الوضع الإسرائيلي المضطرب والعمليات العسكرية ضد غزة التي عاكست مناخ التهدئة الذي يعمّ المنطقة؟ وما هي تداعيات هذا التصعيد على كلا الطرفين؟
لا شك في أن حكومة نتنياهو اليمينية المتشددة وجدت في العمل العسكري ضد غزة متنفساً للهرب من الضغوط الداخلية، بعد أن كاد الغضب الشعبي من الإقالة المفاجئة لوزير الدفاع يوآف غالانت الذي عارض خطط الإصلاح القضائي يسقطها أواخر مارس (آذار). من جهة أخرى، شدّت أواصر الائتلاف الحاكم بعد أن كاد يتزعزع إثر استياء وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من تراجع الحكومة عن هدم «الخان الأحمر» شرق القدس، وتجميد الإصلاح القضائي تحت ضغوط محلية ودولية، وتهديده مؤخراً بمقاطعة التصويت في الكنيست على قرارات الحكومة، ما لم توجه رداً ساحقاً على رشقات «الجهاد الإسلامي» الصاروخية. ولا شك أيضاً في أن صواريخ «الجهاد» أيقظت بعد فتور الدعم الأميركي لإسرائيل، ما حال دون إصدار بيان في مجلس الأمن يدينها.
على الصعيد العسكري، نفذت إسرائيل منذ عام 2006 وحتى الآن ما لا يقل عن 17 عملية عسكرية ضد قطاع غزة، من دون أن تحقق الكثير، باستثناء اغتيال القياديين العسكريين الستة في «الجهاد» في العملية الأخيرة. ويبدو أن جميع انتصاراتها كانت موقتة؛ إذ هدفت حملاتها إلى الحفاظ على الوضع القائم أكثر من تغييره. فعلى الرغم من تفوقها العسكري، فشلت حتى الآن في إملاء استراتيجية لإنهاء القتال، والفترات بين جولة قتالية وأخرى بدأت تتقلص.
بالمحصلة، إسرائيل عاجزة عن الحسم العسكري ضد غزة، وتورطت في هذه الجولة التي دخلها نتنياهو لاعتبارات سياسية وشخصية بحتة، وبات جلياً أنه فقد القدرة على المناورة، وثقة شريحة واسعة من الجمهور الإسرائيلي كما ثقة حلفائه المتشددين. على صعيد السياسة الخارجية، تحوّل نتنياهو إلى عبء على حلفائه لا سيما الأميركيين، وتراجعت الحماسة العربية للتطبيع مع حكومته المتطرفة.
بالنسبة إلى حركة «الجهاد الإسلامي»، فقد سجلت لنفسها إنجازات عدة: نجحت في شلّ سكان الجنوب، وأرهبت المواطنين ودفعتهم للهرولة إلى الملاجئ، والأهم، أطالت المعركة واستمرت في إطلاق قذائف صاروخية باتجاه الأراضي الإسرائيلية حتى صافرة النهاية.
ومع ذلك، قدمت خدمة مجانية إلى حكومة نتنياهو، وأطالت بعمرها مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الفلسطينيين بخاصة ومستقبل السلام بالمنطقة بعامة، إذا قُدر لها تنفيذ برامجها وبقي القرار السياسي والأمني بيد المتطرفين العنيفين. ولعل «الجهاد الإسلامي» وبعض الممانعين لا يعون أهمية ما يجري في إسرائيل، وما سيتأتى عنه من انعكاسات سلبية أو إيجابية، حسب الجهة القادرة على الغلبة أو حتى بقاء حالة اللااستقرار فيها.
وإذا كانت حركة «الجهاد» بتصعيدها هذا تهدف إلى إطلاق النار على ما تبقى من مساحات متاحة للتقارب العربي - الإسرائيلي المترنح بسبب تعنت حكومة نتنياهو وإعادة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى الواجهة، ومعه الحياة إلى حلف الممانعة للعب أدوار جديدة في المنطقة، فإنها تكون قد فشلت في قراءة المتغيرات الجذرية التي طرأت على المشهد السياسي فيها كما جرى تظهيره في قمة جدة. إن قرار بعض الدول العربية -لا سيما الخليجية منها- التطبيع مع إسرائيل هو قرار استراتيجي أسست له سياسة خارجية أكثر استقلالية، وتعطي الأولوية للمصالح الوطنية، وتحاول الموازنة في علاقاتها بين الشرق والغرب، إضافة إلى انتهاج سياسة «صفر مشاكل». ومن هذه العدسة، تجدر قراءة المصالحة السعودية - الإيرانية، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية.
أخيراً، يجدر التوقف عند عدم مشاركة «حماس» في جولة القتال الأخيرة، موجهة رسالة إلى الجهات الفاعلة؛ لا سيما إسرائيل ومصر والولايات المتحدة، بأنها «طرف مسؤول» منع تحوّل العمل العسكري إلى عدوان واسع على غزة، في مسعى واضح للعب دور منظمة التحرير الفلسطينية الجديدة بعد احتضار الأصيلة. إسرائيل تهاجم «الجهاد الإسلامي» بيد وتغذي «حماس» باليد الأخرى وتعزز مكانتها وسيطرتها على القطاع، لمنع أي إعادة توحيد سياسي مع الضفة الغربية؛ لكن إسرائيل تتجاهل المستويات الحقيقية للتعاون بينها و«الجهاد الإسلامي»، وآليات التنسيق بين هاتين المنظمتين وما يسمى «محور المقاومة». من هنا ضرورة تحصين المصالحات في المنطقة من التداعيات المحتملة لما سترسو عليه الأوضاع الداخلية في إسرائيل، وكذلك علاقاتها مع «الجهاد الإسلامي» و«حماس» و«حزب الله»، وما قد يسعون إليه من توسيع جبهات القتال تحت مظلة ما باتت تسمى «وحدة الساحات».