الإقامة في عالم مُنهك

منذ 1 سنة 198

لا شيء أصعب على المرء من أن ينظر إلى خرائط العالم، ليجدها متصدعة ومنهكة، تتخللها الشقوق السياسية والاقتصادية والبيئية. العالم اليوم يبحث عن ملامح جديدة، وقاموس مغاير للمستقبل، فما إن تهدأ أزمة في منطقة، سرعان ما تشتعل أزمات أخرى في مناطق جديدة. الأحداث باتت أسرع من قدرة التاريخ على تسجيلها. عشنا عقوداً خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، وصولاً إلى الحرب الباردة، والعالم الأحادي القطب، استطاعت البشرية أن تتجاوز كل الأحداث الجسيمة التي خلَّفتها هذه الحروب، وحاولت أن تستجمع قواها من جديد، وتتعايش مع مخاطر وأخطار وتحديات نتجت من نحو قرن مضى؛ لكن اللافت للنظر في هذه المرحلة من عمر العالم، أن الضغوط والأزمات مغايرة، فخرائط العالم تشهد الآن حصاراً من المشاكل والأزمات العابرة للحدود، لم تقتصر على مساحة أو إقليم أو جغرافيا محددة، فهي أزمات مترامية الأطراف، تحدث في بقعة ما من العالم، لنسمع صداها وتأثيرها على سائر جسد البشرية، كل ربوع الكرة الأرضية. فليس خافياً على أحد الزحام المتواصل للقلاقل والتوترات التي صارت تعصف بالاستقرار العالمي، دخان كثيف لصراعات النفوذ والإرادة، يتواكب مع أحمال ثقيلة من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية.

جائحة «كورونا»، والحرب الروسية - الأوكرانية، فتحتا الجراح المسكوت عنها، منذ الحرب العالمية الأولى، فهاتان الكارثتان وضعتا الجميع أمام مسؤولياته، وكشفتا هشاشة العالم اقتصادياً وصحياً. نظر العالم في مرآة الواقع فاكتشف أنه لا يملك ملابس الطوارئ في وقت الأزمات، ووجد نفسه أمام فواتير باهظة مطلوب سدادها بشكل عاجل لمواجهة التضخم ونقص الطاقة والغذاء، والخلل المتزايد في سلاسل الإمداد، فهذه الجائحة لن تفرق بين دول غنية، وأخرى ذات اقتصادات ناشئة، فالولايات المتحدة الأميركية -وهي أكبر اقتصاد عالمي بواقع 21 تريليون دولار- عانت من ظاهرة الرفوف الخالية، ونقص حليب الأطفال، وكذلك يتكرر المشهد نفسه في ألمانيا واليابان اللتين شهدتا معدلات تضخم لم يعرفها مواطنوها منذ الحرب العالمية الثانية، فللمرة الأولى في التاريخ يقف المواطن الألماني في طوابير طويلة للحصول على تذاكر مخفضة لمترو الأنفاق، وللمرة الأولى أيضاً نجد المواطن الياباني يعاني من ارتفاع المواد الأساسية والحياتية، أما التنين الصيني الذي يحتل المكانة الاقتصادية الثانية عالمياً، فقد دفع فواتير ضخمة سياسياً واقتصادياً، جراء فترة الإغلاق التي فرضتها الجائحة، ولا تزال الحكومة الصينية تحاول التعافي من الآثار السلبية لتلك الأزمة.

وإذا اعتبرنا أن هذه الآثار السلبية ألقت بظلالها على الدول ذات الاقتصاد القوي، فلنا أن نتخيل كيف كان حجم هذه التأثيرات على دول فقيرة ونامية وذات اقتصادات ناشئة. وهنا أتذكر تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التي دق فيها جرس الإنذار، عندما قال إن هناك 52 دولة في العالم -خصوصاً في أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وآسيا- باتت على المحك من سداد أو عدم سداد ديونها، وأن 800 مليون إنسان على وجه الكرة الأرضية، ليست لديهم قدرة على تأمين الحصول على الغذاء بشكل يومي.

الشاهد أيضاً أن جائحة «كورونا»، والحرب الروسية - الأوكرانية، لم تكن لهما تداعيات اقتصادية فقط؛ بل تركتا آثاراً سياسية كبرى على العالم. فمنذ اندلاع هذه الحرب في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) عام 2022، دخل العالم في حسابات جديدة تقوم على التشظي والانقسام والانحياز، والاستقطاب، وكتبت نهاية لعصر الحياد والموضوعية، والمسافة الواحدة، فجميع الأطراف الدولية المتنافسة، والمتصارعة، ترفع شعار «من ليس معنا فهو ضدنا»، الأمر الذي فرض ضغوطاً أربكت استقرار الخرائط، ليس فقط الدول المتقاطعة والمتداخلة في الحرب بشكل مباشر، أو غير مباشر؛ بل طال دخان هذه الحرب دولاً ومجتمعات بعيدة لا تشارك في هذه الحرب، مثل الدول الأفريقية، والعالم العربي، والشرق الأوسط، وآسيا، وأميركا اللاتينية، فهذه الدول باتت مطالبة بأعباء سياسية، ومطلوب منها الإفصاح عن موقفها من الأطراف المتصارعة في الحرب، وأن هذه الدول عندما تتخذ قرارات تتفق مع مصالحها الوطنية ومصالح شعوبها، قد يفسرها أحد الأطراف المتصارعة بأنها قرارات سلبية بالنسبة إليه، وهذا يمثل ضغوطاً كبرى على صانع القرار في هذه الدول، والتي انحازت للحياد الإيجابي والسلام والاستقرار، وليس للحروب والصراعات.فلا شك في أن الفواتير السياسية لهذه الحرب تمثلت في ظهور مشكلات داخلية لكثير من الدول، بسبب تداعياتها، وآثارها الاقتصادية العميقة.

هذه الانعكاسات الاقتصادية والسياسية، قادت إلى قلاقل أمنية وعسكرية في كل دول العالم. فعلى سبيل المثال، نجد أن الإنفاق العسكري زاد على تريليون دولار للمرة الأولى في عام 2022، وهناك توقعات بأن يرتفع إلى 1.3 تريليون دولار في عام 2023، وذلك حسب آخر تقارير معهد استوكهولم للسلام، وهذا نجد له صدى جلياً في دولة مثل اليابان التي باتت تنفق مزيداً من الأموال على الدفاع وشراء الأسلحة وصواريخ «توما هوك»، وكذلك الأمر بالنسبة الى ألمانيا التي خصصت صندوقاً به مائة مليار يورو، لتطوير الجيش الألماني، وهذان النموذجان يتكرران في دول مثل الصين وأستراليا ودول الجناح الشرقي لحلف «الناتو» التي أنفقت أموالاً طائلة على شراء السلاح منذ بداية الحرب الروسية - الأوكرانية.

إذن، وسط قسوة هذه الفواتير الاقتصادية والسياسية والأمنية، والصراعات الضاغطة على خرائط العالم، وغياب أي أفق لوقف هذه الحرب، والتعافي من تداعياتها، بات من الصعب على البشرية الإقامة الدائمة في عالم صار منهكاً، ولا بد من حل عاجل لكل ذلك.* رئيس تحرير «الأهرام العربي»