تجهَّمت مايا مزراحي في وجه مجموعة من ثمانية إسرائيليين احتشدوا أمام المقر العسكري الإسرائيلي، هذا الشهر، في تل أبيب، مطالبين بالسلام مع الفلسطينيين.
قبل عام، كانت مزراحي (25 عاماً) تقف إلى جانبهم، حاملة لافتة تطالب إسرائيل بإنهاء احتلالها العسكري للضفة الغربية. الآن، اصطدمت بهم بالصدفة، في طريق عودتها إلى منزلها من تجمع مجاور يدعو إلى إعادة المواطنين الإسرائيليين المحتجزين كرهائن في قطاع غزة.
عن ذلك، قالت مزراحي: «لا أعتقد أن هناك أكثر من ثمانية أشخاص في جميع أنحاء إسرائيل سيحتجون ضد الجيش في الوقت الراهن. لا أستطيع حتى أن أحمل نفسي على فعل ذلك اليوم».
مزراحي واحدة من عدد متزايد من الإسرائيليين الذين بدأوا في التخلي عن سياسات اليسار - الأفكار التي تتضمَّن تعزيز محادثات السلام مع الفلسطينيين، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية ودعم حل الدولتين، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، عندما عبر مسلحو «حماس» إلى داخل إسرائيل في هجوم مباغت، وقتلوا نحو 1.200 شخص.
وفي خضم الحزن والغضب والخوف الذي اجتاح إسرائيل منذ ذلك اليوم، نشأ إجماع حول أن إسرائيل بحاجة إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً تجاه الفلسطينيين وتأييد صبغة عسكرية أكبر للدولة. وفي الوقت الذي فقد اليسار تيار الدعم الرئيسي له، وجد معسكر السلام الإسرائيلي نفسه مضطراً إلى الاختباء تقريباً. في هذا السياق، أفادت جماعات حراك بأن الكثير من أعضائها تخلوا عن القضية، بينما أولئك الذين ظلوا ملتزمين يكافحون للعثور على أماكن عامة مستعدة لاستيعاب الاحتجاجات المناهضة للحرب.
أما الدعوات القليلة لوقف إطلاق النار، التي اكتسبت اهتماماً شعبياً، فكانت مدفوعة بعائلات الرهائن الإسرائيليين الذين اختطفوا في غزة في السابع من أكتوبر. وقد طالبت هذه العائلات الحكومة بوقف القتال مؤقتاً، للتفاوض على عودة أحبائهم. وقد تزايدت قوة هذه الدعوات هذا الأسبوع، بعد إعلان الجيش الإسرائيلي قتله عن طريق الخطأ ثلاثة رهائن. ومع ذلك، أكدت معظم العائلات دعمها المجهود الحربي الراهن على نطاق واسع، واعتقادها بأنه ضروري.
ووفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجريت خلال الشهرين منذ السابع من أكتوبر، تحرك الإسرائيليون بشكل حاسم باتجاه اليمين بخصوص عدد من القضايا السياسية، بما في ذلك دعم المستوطنين في الضفة الغربية، وتأييد السياسيين اليمينيين المتطرفين، وحتى إعادة احتلال غزة.
الواضح أن صدمة ما حدث في السابع من أكتوبر غيرت المجتمع الإسرائيلي. في هذا الصدد، قالت تال شنايدر، كاتبة عمود سياسي بصحيفة «تايمز أوف إسرائيل»: «لقد جعلهم ذلك يتساءلون عن المبادئ الأساسية المرتبطة بما إذا كانوا آمنين في منازلهم. والآن، يطالبون بالمزيد... المزيد من القوات العسكرية، والمزيد من الحماية، والمزيد من السياسات المتشددة».
من جهتها، منيت الأحزاب اليسارية في إسرائيل بتراجع مطرد على مدى السنوات العشرين الماضية. وخلال الدورة الانتخابية الأخيرة في إسرائيل، فاز حزب العمل المنتمي إلى يسار الوسط بأربعة مقاعد فقط في الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، ما يشكل انخفاضاً كبيراً عن المقاعد التسعة عشر التي شغلها عام 2015. كما أخفق حزب «ميرتس»، أحد الأحزاب اليسارية الإسرائيلية القليلة التي شغلت مقعداً على امتداد العقد الماضي، في الحصول على الأصوات الكافية للتأهل في الانتخابات الأخيرة.
الأسبوع الماضي، أعلنت رئيسة حزب العمل، ميراف ميخائيلي، استقالتها من منصبها وسط انتقادات بأنها مسؤولة عن النتائج الضعيفة للحزب في استطلاعات الرأي.
وقالت شنايدر: «لا أحد في هذا البلد يرغب في الحديث عن السلام الآن. أصبح كونك يسارياً كلمة بذيئة اليوم»، مضيفة أنه في حين أن القضايا التقدمية اجتماعياً، مثل الرعاية الاجتماعية المدعومة من الحكومة، لا تزال تحظى بشعبية في إسرائيل، فإنها تبدو اليوم منفصلة بشكل متزايد عن الحركات اليسارية داخل إسرائيل. وعن هذا، شرحت شنايدر أن «الكثير من الإسرائيليين يريدون المزيد من برامج الرعاية الاجتماعية الحكومية، لكنهم يريدون قيادة سياسية محافظة».
وتكشف استطلاعات الرأي التي أجريت في إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، مدى التحول السياسي. وخلص استطلاع أجرته القناة «12» الإسرائيلية، إحدى أكثر المحطات التلفزيونية شعبية في البلاد، إلى أن ما يقرب من ثلث الإسرائيليين وصفوا أنفسهم بأنهم «يميلون نحو اليمين» خلال الشهر الذي تلا هجمات السابع من أكتوبر، في حين أفاد عدد أقل بكثير بأن سياساتهم قد تحولت أكثر باتجاه اليسار.
وفي استطلاع آخر، وجدت جامعة تل أبيب الإسرائيلية في نوفمبر (تشرين الثاني) أن نسبة الإسرائيليين الداعمين لحل الدولتين انخفضت عما كانت عليه قبل شهر واحد فقط، مع تراجعها إلى أقل من ثلث المشاركين بالاستطلاع.
وإذا كانت الحرب قد أدت إلى تسريع وتيرة تراجع اليسار، فإنها أضرت كذلك بشعبية نتنياهو.
ولأشهر قبل الحرب، تمكن رئيس الوزراء من تشكيل ائتلاف جامح من الأحزاب اليمينية المتطرفة المهيمنة على 64 مقعداً في الكنيست الإسرائيلي المؤلف من 120 مقعداً. وفي الآونة الأخيرة، تحولت الوقفات الاحتجاجية لتأبين الإسرائيليين القتلى إلى احتجاجات على قيادة نتنياهو، ودعوات إلى استقالته.
في هذا الصدد، قالت شنايدر: «لقد اتجهت البلاد نحو اليمين، ومع ذلك لم يعودوا يريدون نتنياهو كزعيم لليمين. إنها مسألة من يمكنه تمثيل وجهات النظر اليمينية الجديدة التي يتبناها الكثير من الإسرائيليين اليوم».
وقال نشطاء إسرائيليون مخضرمون معنيون بالسلام إن ميل إسرائيل نحو اليمين بات أمراً ملموساً. وداخل مكاتب منظمة «نقف معاً»، منظمة أسسها إسرائيليون وفلسطينيون بشكل مشترك، أصبح المزاج قاتماً منذ السابع من أكتوبر.
وقال إلون لي غرين، مؤسس المنظمة، إن العضوية انحسرت. وعندما حاولت المنظمة تنظيم مسيرات تضامنية بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الأماكن العامة، قوبلت بالرفض من قبل البلديات المحلية والشرطة.
وأضاف غرين: «جرى منعنا من دخول الأماكن العامة. وقيل لنا إنه لا يوجد جمهور لرسالتنا اليوم. هذا وقت أصعب من أي وقت مضى للدعوة إلى السلام».
وأشار غرين إلى أن الجماعة لجأت إلى استئجار أماكن خاصة، مثل المطاعم وقاعات الأفراح، لإقامة تجمعاتها.
وأضاف أنه يتفهم الرغبة السائدة بين كثير من الإسرائيليين في الدعوة لتعزيز الأمن وزيادة الوجود العسكري منذ السابع من أكتوبر.
وقال: «أتذكر أنه في الأيام التي تلت الهجمات، كنت أراقب الوضع باستمرار. لا يمكنك التقليل من شأن ما يفعله هذا النوع من الأشياء في نفسك، إنه يغرس الخوف داخلك بعمق». إلا أنه استطرد بأنه على ثقة أكثر من أي وقت مضى أنه في النهاية سيتضح أن القتال من أجل مستقبل سلمي السبيل الوحيد الممكن للمضي قدماً.
وأكد: «لقد تحررت من خوفي، وأدركت أن هذه كانت أهم لحظة في حياتي للنضال من أجل السلام، حتى لو بدا الأمر بعيد المنال اليوم أكثر من أي وقت مضى».