بعض الذكريات والحكايات الشخصية والخاصة تكون أحياناً ذات معنى ومغزى مهم، يجد الكاتب نفسه مضطراً للتوقف عندها واستذكارها، خصوصاً إذا ما ارتبطت بتاريخ مكان وزمان ما لشعب أو شريحة اجتماعية، وهنا سأترك اليوم الكتابة في السياسة وأعود إلى حكايتي مع التدخين و«فيل خريسان» في قريتي الأردنية الوادعة «العالوك» في خمسينات القرن الماضي.
سأترك اليوم السياسة، وهذا مع أن السياسة في غاية الأهمية، وحيث إن العالم بدون سياسة يصبح كقطعان برية هائمة في دنيا الله الواسعة، وتتبادل «التنافر» فيما بينها، لكن هل يمكن للسياسة أن تغيب عن شيء!! وتحت هذه الـ«لكن» يجب وضع عشرات الخطوط، وعلى أساس أننا نتحدث عن الدخان والتدخين الذي لا نعرف متى قد بدأت حكايته في العالم... هل قبل بداية التاريخ أم بعد ذلك بمراحل لاحقة... والمهم أن هذه الآفة قد بدأت... لكن... متى وكيف ولماذا؟! فعلمها عند الله.
كانت حكايتي مع الدخان «الهيش» قد بدأت مع جدتي واسمها «الكويشية»، رحمها الله الرحمة الواسعة، عندما كنت صغيراً... ولم يكن والدي ولا والدتي يتعاطيان هذه الآفة... وكانت الجدة «الكويشية» تغزونا غزواً متلاحقاً، وحيث إنها كانت تسكن مع عائلتها الجديدة بعد وفاة جدي لوالدي، رحمه الله، في مدينة الزرقاء، التي كانت في خمسينات القرن الماضي قرية صغيرة تكون في النهار متحركة نشطة ومليئة بعباد الله... تتحول مع بدايات المساء المظلم إلى السكون... حيث لا أضواء، فقد وصلتها الكهرباء متأخراً.
كانت نكبة فلسطين قد صارت واقعاً... وكنت أسمع حكايات أهلنا الذين أبعدتهم المؤامرة الدولية عن بلادهم الجميلة التي عنوانها القدس... وحيفا ويافا... ووصلت بهم إلى الزرقاء، وأبكي في بعض الأحيان وأنا أسمع تلك الحكايات التي لا تزال تسكن مخيلتي حتى الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة.
كانت قريتنا «العالوك» عبارة عن عدد من «السراديب» والكهوف بينما بدأت بعض المساكن الحجرية تخرج من كهوفها، التي تستضيف مع بدايات غروب شمسنا الجميلة التي كنا ننتظر عودتها في صباح اليوم التالي... الآباء والأمهات والأولاد والجدود والجدات... وضيوف الرحمن الذين كان يدفعهم الجوع إلى ملاحقة «طراميز» الذرة (خبز الذرة) التي كانت روائحها الشهية تجذب «ضيوف الرحمن» الذين لم تكن لهم مهنة إلا مهنة الانتقال من قرية إلى قرية أخرى، بخاصة القرى التي كانت تعيش فترات الحصاد الجميلة.
مع بدايات فصل الشتاء كانت تبدأ مهاجمة أشجار البلوط... وأشجار النبق واللوز... وكل ما هب ودب كما يقال... فالدفء مطلوبٌ... والجوع كافرٌ كما يقولون... وحيث إن تلك الأيام التي بات يتحسر عليها أهلها قد كان أجمل ما فيها الحكايات الليلية واستغابة أولئك الذين يهرفون وهم لا يعرفون!!
كان الذين قد «جاءونا» من بعض مدن بلاد الشام قد جعلوا من «العالوك»، عالوكنا، بلدة ناهضة... وأهم ما فعلته بلدتنا هو أنها استقبلت لاجئي شعب فلسطين بعد نكبتها بالحب والحنان والأحضان.
وكان أهل القرى المتناثرة في هذه المنطقة التي كانت تحتضن سيل الزرقاء يتسابقون على الترحيب بضيوف الرحمن... وهذا مع أن القبض على رغيف خبز أو «طرموز» ذرة يحتاج إلى مطاردة من قرية إلى قرية... وكان يحتاج في معظم الأوقات إلى مجاورة «طواحين عدوان» التي يسعدها أن تواصل الترحيب بسيل «خريسان»... وخريسان هذا له حكاية طويلة... وهكذا عندما كبرت أخذت أبحث عن حكاية «خريسان» ولفترة طويلة.
قال لي أحد الذين كانوا يجعلون من «الحبة قبة» إن «خريسان» كان غولاً أو فيلاً مرعباً، يقطع الطرق ويُجرد «الخُطار» من ثيابهم ومن أرغفتهم... وهذا إذا كانوا يحملون أرغفة... وكان عندما يُهمْهِم تستجيب له الأودية المجاورة كلها... وبالطبع فإن أصحاب الروايات الخيالية لم يتركوا رواية إلا وألصقوها بـ«خريسان»... ما أدى إلى أن أهل تلك البلاد أصبحوا يتجنبون حتى المرور بتلك المنطقة!!
قال لي أحد الذين كانوا يملكون المعلومات الكافية إن «خريسان» هذا قد أُخترع اختراعاً لإخافة الذين كانوا يواصلون استهداف هذا الوادي الجميل المزروع بأشجار الرمان والمشمش... والبعض قد قال لي من قبيل المبالغة... وأيضاً والتفاح... وهكذا وبعدما كبرت وتابعت هذا الموضوع فإنه لم يكن هناك «فيل» اسمه خريسان ولا هم يحزنون... وأن كل ما في الأمر أن والدي رحمه الله... قد قرر اختراع هذه الحكاية المرعبة... بعد وفاة شقيقه الأكبر ليبعد بعض «ضيوف» الليل والنهار... وليمنع أصحاب الأغنام من استهداف بستانه الجميل وليبعد أصحاب الأكاذيب المفبركة عن مداهمته ليلاً ونهاراً... وإذْ إن حكاية «فيل خريسان» قد باتت حكاية مرعبة... وإلى حد أن أحد الأقارب قد شاهد «سرية» من المتكسبين يداهمون بستاننا... فغطى وجهه... ونثر شعره... وصبغ لحيته وشواربه... وأخذ يُهمهم بصوتٍ مرتفعٍ فما كان من أحد الحرامية والمتكسبين إلا أن قال صارخاً: «يا ويلي... هذا فيل خريسان»... وأخذ كثيرون يتداولون هذه الحكاية فأصبح وادي خريسان مكاناً مرعباً... ولم يعد يمر به لا حرامي فعلي... ولا حرامي مفبرك!!
وأذكر أن قريباً لي قد روى لي حكاية لم أكن قد عشتها، قال فيها إنه ومعه بعض الأصدقاء قد «غشوا» بستاننا في مساء يوم ممطر... وإذا بـ«فيل خريسان» يصرخ بهم بصوت مرتفع استجابت له الوديان المجاورة... وهكذا وعندما كانوا يحاولون الهرب والهزيمة... نادى عليهم والدي، رحمه الله، وكان لا يزال شاباً يافعاً بأن لا يخافوا... فـ«فيل خريسان» هو أنا... فما كان منهم إلا أن باتوا يصرخون... «فيل خريسان... فيل خريسان» وهربوا!!
والمشكلة هنا، هي أن بعض الأقارب وبعض أفراد العائلة الكبيرة باتوا يخافون من المرور بوادي «خريسان» أو زيارتنا في هذه المنطقة الجميلة، وهذا إلى حد أن هناك من أخذوا يطالبون والدي، رحمه الله، بالرحيل من خريسان... وأنهم ما عادوا يزوروننا، وإلى حد أنهم عندما كانوا يواجهون عتاباً... كانوا يقولون إن الحق... كل الحق على «فيل خريسان».
وكان بعض الأعمام والأقارب يعتقدون أن والدي، رحمه الله، على علاقة مع «فيل خريسان» هذا، وأن من كانت لهم بعض الأراضي الزراعية في تلك المنطقة كانوا يطلبون منه، أي من والدي، أن «يتوسط» لهم مع «فيل خريسان» ليسمح لهم بأن يقطفوا ثمار أشجارهم... والمشكلة وصلت بالبعض إلى أنهم كانوا يتقمصون هيئة «فيل خريسان» ليبتزوا بعض المزارعين والأهالي في هذه المنطقة، وبعض النسوة اللواتي يخفن على أطفالهن من هذا الشبح «الخطير»ـ والمعروف أن هناك بيتاً شعرياً قد جاء فيه: أقسمت أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء... والخل الوفي!!