الألعاب الشعبية... صخب أخرسته "متاجر التطبيقات"

منذ 1 سنة 133

عرفت الحضارات القديمة الألعاب، باختلاف أشكالها، ذهنية وبدنية، للتسرية عن النفس، وكسر الملل، والاستمتاع بالوقت. بقي بعضها حتى هذه اللحظة، وتوارى آخر. لكنها جميعاً باتت مهددة أمام الهواتف المحمولة، ومتاجر التطبيقات، والعوالم الافتراضية، التي تسحب من تحتها البساط بوتيرة متسارعة، لا سيما بين الأجيال الجديدة، التي نشأت وسط "صخب الإنترنت والتكنولوجيا".

على طاولة بأحد مقاهي وسط القاهرة، كان مصطفى رضا، يمسك هاتفه المحمول بشكل عرضي، ولا تبتعد عيناه عن الشاشة إلا في لحظات نادرة، لإجابة استفسارات نادل المقهى، ثم يعود إلى تحريك يده على الشاشة بشكل سريع ولافت. يجلس الشاب وحده في انتظار أصدقائه، قاطعاً تلك اللحظات بممارسة لعبة إلكترونية جماعية، تلقى انتشاراً واسعاً، تدور في فلك القتال.

على الطاولة المجاورة، كان خمسة رجال، من كبار السن يلعبون بأوراق "الكوتشينة" وصخبهم الأعلى في المحيط، ما بين منتصر ومهزوم، وساخر وضاحك ومتأفف، في أجواء ليلية قد تمتد حتى الصباح، ولا تنتهي إلا بإغلاق المقهى.

اختلاف أجيال

فارق العمر بين مصطفى والرجال على الطاولة المجاورة له كبير، فأصغرهم جاوز الـ40 سنة، أما هو فقد ولد عام 2005، أي أن عمره الآن 18 سنة، وعرف في طفولته أجهزة الكمبيوتر وألعاب الهاتف والفيديو، وباتت الأقرب له.

يقول مصطفى في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن الألعاب الأخرى مثل "الدومينو والطاولة والكوتشينة" لا تناسب جيله، إذ إنها لم تكن ضمن مفردات طفولته، التي عرف فيها محال "البلاي ستيشن" وكانت الألعاب الرقمية تحتل النصيب الأكبر منها.

ويبلغ عدد مستخدمي شبكة الإنترنت عالمياً أكثر من خمسة مليارات ونصف المليار شخص، بحسب تقرير لموقع "إنترنت وورلد ساتيس" بواقع 69 في المئة من سكان العالم. وفي الشرق الأوسط يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت 214 مليون مستخدم. وفي العالم العربي تشهد أعداد مستخدمي الإنترنت زيادة، لكنها بفجوات ما بين دول وأخرى، ويبلغ عدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية عربياً 275 مليوناً.

000_WAS2005011230553.jpg

وفي مصر وصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى 76 مليون شخص، بحسب تقرير لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية صدر في العام الماضي. وتعد نسبة الشباب والمراهقين والأطفال من مستخدمي الإنترنت الأكبر على حساب كبار السن.

وبحسب الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات المصري فإن ألعاب الفيديو، التي يتم لعبها باستخدام الإنترنت، يصل عدد لاعبيها إلى 17.4 مليون لاعب، وتصل ساعات اللعب لـ424 ألف ساعة يومياً، في عام 2022 بزيادة في حجم الاستخدام تقدر بــ69 في المئة عن صيف عام 2021.

وتقاوم ألعاب شعبية عربية اشتهر عنها الحركة، الاندثار التدريجي، مع ذلك الاستخدام الكبير للإنترنت، لا سيما الألعاب التي لها تاريخ طويل، مثل "التشيلة والكريدة" في الجزائر، و"المنقلة والزقطة" باليمن، و"الدنانة، وطاق طاق طاقية" في السعودية، و"السبع حجرات والحنش" بتونس، و"البلي والنحلة" في مصر، كما أن هناك ألعاباً مشتركة بين الدول العربية جميعها مثل "الغميضة" على سبيل المثال، لم تعد تُمارس بشكل كبير.

يشير مصطفى، وهو جالس في المقهى، إلى عدة ألعاب على هاتفه، ما بين أشكال متشابهة عليه تحطيمها، وأعداء يجب التخلص منهم، ومكعبات عليه التخلص منها بكرة بيضاء تقفز يميناً ويساراً، وعليه أن لا يمنعها من السقوط بواسطة مضرب خشبي يتحكم فيه باللمس على شاشة الهاتف "هذه الألعاب ليست حديثة جداً، لكنني أحبها، أقطع بها الوقت ليس أكثر، أما الألعاب الأخرى فتحتاج إلى مشاركة واقعية، وليست افتراضية، وهو أمر لا يتوافر كثيراً".

وعلى النقيض كانت المجموعة التي تلعب بأوراق "الكوتشينة" باختلاف طبيعة كل لعبة، وتغيرها من لحظة إلى أخرى بحسب أمزجتهم، فإنهم يرونها ألعاباً حقيقية فيها مكسب وخسارة واقعي لا افتراضي، ويكون الحديث والهمز واللمز بعض مفرداتها، وأدوات للتحميس "هذه الألعاب التي نشأنا عليها، الكوتشينة، الشطرنج، الطاولة، الدومينو، الداما، وغيرها" قالها سعيد رجب، ذو الـ45 سنة، الذي يقضي وقتاً طويلاً على المقهى رفقة أصدقائه وزملاء العمل، يجربون في كل ليلة لعبة مختلفة، وقد يضطرون لاستخدام ورقة وقلم لاحتساب النقاط المحتسبة لكل فرد، في المجموعة التي قد تضم 5 أشخاص، تزيد وتنقص بحسب قوانين كل لعبة.

"اللعب على المشاريب"

يقول صاحب مقهى في وسط القاهرة، لـ"اندبندنت عربية"، إن الألعاب الشعبية، التي كانت معروفة بشكل كبير في الماضي، باتت تتراجع مع الوقت، ويلحظ ذلك بحكم عمله مع الأجيال الصغيرة، ممن يصلون إلى مقهاه، فلم يطلب منه أحدهم تلك الألعاب الشعبية إلا نادراً، لكنهم على النقيض وبحسب قوله، ينهمكون باللعب على هواتفهم المحمولة، أو يمارسون رياضات بدنية، ويستريحون بعد اللعب عنده، مثل كرة القدم أو ممارسة التزلج "سكيت رول".

في الفصل السابع عشر المعنون بـ"الألعاب" من كتاب "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، يقول مؤلفه إدوارد وليام لاين، الذي زار مصر عام 1825 ونقل ثقافتهم وعاداتهم آنذاك في كتابه "تتماشى معظم ألعاب المصريين مع مسلكهم الرزين، وطبيعتهم الرصينة، فيستمتعون بلعب الشطرنج والداما والطاولة".

ويلفت الكاتب إلى مسألة تحريم بعض الألعاب أو التصاوير، كما في الشطرنج، فيقول إن أشكال البيادق كانت بسيطة، وكانوا (المصريون) أقل وسوسة بالنسبة إلى ألعاب النرد. مشيراً إلى أن أبناء الطبقات الدنيا في مصر ارتادوا المقاهي، لممارسة ألعاب الحظ على اختلافها، وربما كانت هناك رهانات لكنها "لا تزيد على ثمن بعض فناجين القهوة (...) يدفع الخاسر ثمن فناجين القهوة التي يشربها وخصمه وكل الحاضرين الذين يتابعون اللعبة، أو يتفقان على ثمن عدد معين من الفناجين".

000_R382L.jpg

هذا الشكل من اللعب والتنافس، ربما يكون قائماً حتى الآن، بما في ذلك الرهان بين اللاعبين باختلاف أعدادهم، ولا يتعلق الأمر في الخسارة بإعطاء نقود لمن فاز، إنما بالكيفية ذاتها التي تحدث عنها إدوارد وليام لاين، لكنها تقال بلغة اليوم "اللعب على المشاريب".

يقول محمد حسن، وكيل شعبة الأدوات المكتبية واللعب، بالغرفة التجارية بالقاهرة، في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن الجيل الجديد يختلف في تعامله مع الألعاب عن الأجيال الأكبر سناً، فيميلون إلى الألعاب الإلكترونية، لكنه في الوقت نفسه يذكر بأن الألعاب القديمة لا يزال لها وجود "هناك مسابقات شطرنج مثلاً، وهذه تحفز الصغار على المشاركة فيها، فيتجهون لتلك اللعبة".

واحدة من أكثر الألعاب شعبية بحسب حسن، "الكوتشينة"، لوجود أكثر من وسيلة للعب بها، وتناسب الكبار والصغار، لكنها لا تلقى رواجاً كبيراً كما كان في الماضي. ويحدث لبعض الألعاب أن تعود من جديد إلى الصدارة، لكن باختلاف الشكل، كما في لعبة "السلم والثعبان" التي باتت تلعب على الأرض لا الورق فحسب، كما في لعبة "بنك الحظ" أيضاً "هذا الشكل من التحديث يغري الطفل، لكل عصر مفرداته، وربما تكون هذه هي الوسيلة لجمع الأطفال حول ألعاب قديمة".

عزلة ومشاركة

بعيداً من المقهى، وداخل منزل في حي شبرا بالقاهرة، تسيطر تلك الألعاب الرقمية على 3 من أفراد المنزل، تشتكي أمهم من بقائهم طويلاً أمام الشاشات، حتى إنها ذات مرة حاولت مجاراتهم في لعبها، لكنها لم تستطع، وكان تصرفها لمجرد ما تراه عزلة منهم أمام الهواتف.

لجأت الأم، هدى نعيم، إلى حيلة أخرى بشراء ألعاب تعرفها، بعضها ورقي يحمل ألغازاً، وأسئلة وأجوبة، وبعضها خشبي كالشطرنج والداما، باعتبارها ألعاباً تشاركية واقعية كما أنها تعمل على تنشيط الدماغ ورفع مستوى الذكاء، كما تعتقد، لكن أطفالها لم يستجيبوا لها "كانت الألعاب قديماً مثل الغميضة وكهرباء وشد الحبل، والكلمات المتقاطعة، والسلم والثعبان وحل التشابكات للوصول إلى هدف، ولعبة (إكس أو) التي تقوم على منافسة ما يسيطر على طفولتنا ومراهقتنا، وبعد ذلك أيضاً لكن ذلك تغير" تحكي الأم صاحبة الـ42 سنة، لـ"اندبندنت عربية".

توت عنخ آمون والشطرنج

الألعاب الشعبية، يعود بعضها إلى حضارات قديمة مثل الداما، بحسب ما ذكره عالم المصريات، زاهي حواس، في كتابه "الألعاب والتسلية والترفيه عند المصري القديم"، وقسم فيه الألعاب إلى رياضية، وعنيفة، ومائية، وذهنية، وألعاب أطفال، والأكروبات.

في فصل الألعاب الذهنية، تحدث حواس عن بعض الألعاب قائلاً "عرف المصري القديم الألعاب الذهنية منذ العصر الحجري القديم، حيث عثر في حفائر حلوان على لعبة كاملة رقعتها مصنوعة من الطمي، أما القطع التي عثر عليها فهي تتكون من 14 قطعة من الألباستر (...) لكننا لم نعرف كيفية اللعبة". لكنه يورد في الكتاب نماذج لثلاث ألعاب ذهنية هي "الداما والسنت والثعبان".

كتب حواس عن الداما أنها لعبة أسرية، مارسها الرجل مع زوجته وأقرانه، وتعتمد بشكل كبير على التفكير، لكنه يذكر بأنها لعبة بابلية وليست مصرية، تلعب على لوحة مستطيلة مقسمة إلى 20 مربعاً، من ثلاثة صفوف.

popular games.jpg

ثم كتب عن لعبة "السنت"، وشبهها كثيرون بلعبة الشطرنج، وهي تقوم على تحريك شكل في رقعة معينة تشبه الشطرنج، ويراوغ الخصم الآخر، حتى يتغلب عليه، وتطورت اللعبة بعد ذلك، بحسب ما كتبه زاهي حواس في كتابه، مرفقة برسومات من على جدران المعابد لملكات يلعبن تلك اللعبة، لكن أشهر وأجمل تلك النماذج من اللعبة بحسب حواس، فقد كانت التي عثر عليها في مقبرة توت عنخ آمون، الملك المصري الشهير، من ثلاث رقاع أكبرها من الآبنوس المذهب المكسو بالعاج.

وبالنسبة إلى لعبة الثعبان، فقد كانت تقوم على لوح مستدير منقوش عليه ثعبان وجسده عبارة عن مربعات، ويستعمل اللاعب قطعاً من تماثيل صغيرة وكرات بيضاء وحمراء، والهدف من اللعبة أن تدخل الكرات إلى مركز الدائرة، ويحتفظ متحف "ليدن" (المتحف الوطني للآثار) في هولندا، بنماذج من تلك اللعبة.

ويتناول الكتاب ألعاباً أخرى كانت تمارس، وبعضها لا يزال حتى الآن، وإن توارى قليلاً، مثل لعبة "إخفاء الوجه" التي يقوم فيها اللاعب بإخفاء وجهه في حجر زميله، فيما يقوم آخرون بضربه، وعليه أن يخمن من الذي فعل ذلك، وتمارس تلك اللعبة الآن بأسماء مختلفة، أشهرها في مصر باسم "صلَّح".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ألعاب شعبية رقمية

يلعب حسن عارف، وهو شاب تجاوز الـ31 سنة، بعض الألعاب الشعبية القديمة، لكن على هاتفه، وتتيح متاجر التطبيقات مئات الألعاب باختلاف أشكالها، ولارتباط الشاب الذي يعيش في القاهرة بتلك الألعاب، ولظروف عمله، فإنه يلعبها على هاتفه المحمول في أوقات الفراغ داخل مكتب عمله، أو في المواصلات لتمضية الوقت.

يقول حسن لـ"اندبندنت عربية" إنه لا يشعر بأنه يمارس لعبة إلا مع هذه الأشكال التي اعتاد عليها في طفولته، ويعتبرها امتداداً لجيل قديم أخذ عنه الكثير في ألعابه "طالما أنها متاحة بشكل إلكتروني فأستطيع اللعب، ظروف الحياة لا تسمح بمقابلة الأصدقاء بشكل كبير، بالتالي ألعب وحدي عبر الهاتف، أو ضمن مجموعات على شبكات تضم عدة أفراد، وتكون هناك مسابقات أيضاً".

"الكوتشينة، البلياردو، الشطرنج، الداما، الطاولة، الدومينو" بعض الألعاب التي يجدها حسن ممتعة ومتاحة بشكل مجاني، ومن دون استخدام الإنترنت أيضاً، طالما أنه حملها على هاتفه، لكنه لا يجد مانعاً من التعرف إلى ألعاب جديدة وممارستها عبر الهاتف أيضاً "الهدف في النهاية تمضية الوقت، وهو قليل بالمناسبة بحكم ظروف العمل، بالتالي لو أتيح لي وقت جيد سألعب تلك الألعاب بشكل واقعي وليس افتراضياً".

ما يقوله حسن، يتفق مع حديث سارة حسني، الشابة المصرية، ذات الـ30 سنة، التي حين تحزم أمتعة السفر لقضاء أسبوع رفقة أصدقائها في إحدى الأماكن السياحية في مصر، تجلب معها كثيراً من تلك الألعاب، وبعضها يعتمد على المصارحة والمكاشفة أحياناً، كالحديث عن ذكرى معينة، أو الجواب عن أبرز التخوفات، وأكثر المواقف المحرجة، بحكم بعض الألعاب الورقية "هذه الألعاب اجتماعية، ومسلية بشكل كبير، حين نسافر نحاول أن ننفصل ولو قليلاً عن العالم الافتراضي والتكنولوجي، ونعيد تذكير أنفسنا بأن العالم مكان ليس قائماً على التكنولوجيا بما في ذلك ألعابها وفقط".