الأفق الروسي الضيق

منذ 1 سنة 165

يسعى الرئيس فلاديمير بوتين في وجه الأزمة القائمة بين بلاده والغرب نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا إلى إعادة بناء شبكة من الأحلاف مع عدد من الدول التي لم تندد بالغزو، أو بقيت على الحياد في النزاع الروسي – الغربي، لأسباب تتعلق بعلاقاتها السابقة مع الاتحاد السوفياتي أو بتحفظاتها على الدور الأميركي في مناطق نزاع مختلفة من العالم.

يدعو الرئيس بوتين إلى «عالم متعدد الأقطاب»، لا تهيمن عليه سياسة «القطب الواحد»، وهو التعبير الذي أصبح رائجاً بعد نهاية الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة قوة مهيمنة في عدد كبير من مواقع القرار الدولي.

في خطاب أخير للرئيس الروسي أمام مؤتمر الدفاع والأمن الذي نظمته وزارة الدفاع الروسية، دعا حلفاء موسكو إلى «مواجهة عالمية تستند إلى استعداد معظم الدول للدفاع عن سيادتها». وقال إن هذه المواجهة يجب أن تكون ضد هيمنة الثقافة الغربية على شؤون العالم ومصائر شعوبه.

كما لم يتردد في تحميل الغرب مسؤولية تدهور الوضع الأمني في العالم، متجاهلاً الذيول التي تركها غزو أوكرانيا على أصعدة مختلفة، تتجاوز الوضع الأمني إلى الاقتصاد والسياسة واستقرار العلاقات الدولية. قال بوتين: «التحديات الأمنية في العالم ناتجة عن التصرفات المتهورة والأنانية والاستعمارية الجديدة للدول الغربية». كما انتقد «محاولات بعض الدول التلاعب بالشعوب وتأجيج الصراعات، وإجبار بلدان أخرى على الانصياع لها في إطار الاستعمار الجديد».

محاولات بوتين حشد التأييد لمواقفه ترافقها محاولة قلب الحقائق المتعلقة بالصراع الحالي. فهذا الصراع لا علاقة له بمشروعات استعمارية أو بتلاعب بمصير الشعوب. وإذا كانت هناك محاولة للتلاعب بمصير الشعوب والهيمنة على قرارها، فهي المحاولة التي يسعى الرئيس الروسي لفرضها على مصير شعب أوكرانيا. هنا تجري إعادة إحياء الشعارات القديمة التي استندت إليها موسكو لفرض هيمنتها على شعوب أوروبا الشرقية، من محاربة الفاشية والنازية إلى الدفاع عن مصالح تلك الدول ضد مشروعات الاستعمار الغربية. وهي الشعارات التي ترفعها موسكو اليوم لتبرير غزو أوكرانيا؛ حملة على النازية في بلد رئيسه يهودي، ومحاربة الاستعمار، فيما السلطة الحالية في كييف جاءت نتيجة عملية ديمقراطية، قامت على أنقاض نظام كان مفروضاً عليها نتيجة التدخل الروسي، كما كانت الأنظمة التي يفرضها الاستعمار في أزمنة سابقة.

تنطلق دعوة موسكو إلى مواجهة الهيمنة الغربية من نظرية تعود إلى العصر السوفياتي، وتقوم على أن كل تحالف مع الغرب هو انتقاص من سيادة الدولة الحليفة، وكل تحالف مع موسكو وكل نظام تدعمه أو تحميه في أي دولة هو النظام الأمثل الذي يحقق «سيادة» تلك الدولة. إنه النموذج الذي اعتمدته موسكو لتحقيق «السيادة» للدول التي كانت تديرها في فضاء أوروبا الشرقية، والتي كانت أنظمة مطواعة تؤمر وتنفذ، وعندما ترتفع أصوات معترضة، تكون الدبابات جاهزة للقمع، كما حصل في بودابست سنة 1956 وفي براغ سنة 1968.

غير أن محاولات الرئيس الروسي توسيع أفق بلاده وإحياء تكتل سياسي، تكون وصية عليه، تواجه أفقاً ضيقاً وتصطدم برفض معظم دول العالم ضم الأراضي بالقوة والسعي إلى إسقاط أنظمة بحجة الخلاف السياسي معها أو رفضها الخضوع للهيمنة.

فالاتجاه السائد الآن الذي تدعمه قوى كبرى في العالم هو السعي لبناء أرضية مشتركة تبحث عن فرص لتحقيق سلام عادل ودائم، وعن توفير أرضية مشتركة لذلك. وهو ما ظهر من خلال الاجتماع الذي استضافته المملكة العربية السعودية، وعقد في جدة قبل أسبوعين لمستشاري الأمن الوطني، وشارك فيه ممثلون لأربعين دولة، من بينها الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، إضافة إلى دول تدعم الموقف الغربي والأوكراني.

خطوات كهذه من شأنها أن تساعد على فتح آفاق للسلام تنقذ العالم من الورطة التي وقع فيها نتيجة النزاع الأوكراني، وروسيا في طليعة المتورطين بعدما أخذت الأزمة تنعكس على اقتصادها وعملتها ووضعها العسكري الذي لم يحقق الأهداف التي كان بوتين يأمل تحقيقها من هذه الحرب.

وأهمية هذه الخطوات أن دولاً تراعي الموقف الروسي، ولا تعتبرها موسكو معادية لها، تشارك في هذه الجهود. أما الدول التي تدعم موسكو دعماً مطلقاً في حربها فهي لا تسهم في أي فرصة لتحقيق السلام. هذه الدول وجدت لها مجلة «الإيكونوميست» وصفاً دقيقاً هو «تحالف الفاشلين» coalition of the failing، وهو التحالف الذي يضم؛ بيلاروسيا، إيران، سوريا، كوريا الشمالية، نيكاراغوا. ولا يحتاج الأمر لكثير من التحليل للاستنتاج أن هذه الدول تحتاج أصلاً للمساعدة والحماية، وليست في وضع يسمح لها بتقديم أي دعم له وزن لموسكو في أزمتها الحالية، إذا استثنينا مسيّرات إيران التي تقصف بها موسكو المدن الأوكرانية وصواريخ كوريا الشمالية التي تدور الشكوك أصلاً حول مدى فاعليتها القتالية.

أما شركاء روسيا الأقربون في جوارها المباشر، الذين تضمهم منظمة معاهدة الأمن المشترك (CSTO) التي تضم بيلاروسيا، أرمينيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، فقد أخذت كلها مواقف محايدة من الصراع الروسي – الأوكراني، باستثناء بيلاروسيا. أما القارة الأفريقية التي كانت معظم دولها توفر الدعم السياسي وتؤمن تمدد نفوذ موسكو في زمن الاتحاد السوفياتي، فمعظم دولها تقف مواقف لا ترضي موسكو في أزمتها الحالية. وزاد خروج روسيا من اتفاق تصدير الحبوب من غضب عدد من الدول الأفريقية من قرارات موسكو.

أما الدول التي أعلنت دعمها للموقف الروسي في القمة الروسية - الأفريقية الأخيرة فهي الدول التي تعتمد على مرتزقة «فاغنر» لحماية أمنها وتدريب جيوشها (مالي – أفريقيا الوسطى – أريتريا) فيما كان زعيم «فاغنر» بريغوجين حاضراً في تلك القمة، رغم محاولة الانقلاب التي قام بها ضد القيادة العسكرية الروسية، ورغم قرار نفيه إلى بيلاروسيا، وقد أشاد بالانقلاب العسكري في النيجر متعهداً بدعم الانقلابيين، بينما كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ينتقد هذا الانقلاب، ويدعو لاستعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة.