الأصدقاء والكتب ورمضان

منذ 1 سنة 198

نفتقد الكتب كما نفتقد الأصدقاء. وزعم الجاحظ أنّ صداقة الكتاب أهمّ وآنَسُ من صداقة الخلّان. وما قصّر المتنبي حين ذهب إلى أنّ خير جليسٍ في الأنام كتاب. وقصصي مع الكتب بالغة القدم والعراقة؛ فأول كتابٍ اشتريته من غير الكتب المدرسية كان كتاب «فتوح البلدان» للبلاذري في صيف العام 1964. كانت نشرته لأستاذين لبنانيين وله غلاف لمّاع، وقد عرفت فيما بعد عندما تقدمت في السن والدراسة بين مصر وألمانيا أنّ النشرة ليست علمية، والأفضل نشرتا المستشرق دي غويه وصلاح الدين المنجد للكتاب. لكنْ لِمَ أُزعجُ القراء بأخبار النشرات؟! أُغرمتُ بالنص التاريخي وقرأته خلال عامٍ أكثر من عشر مرات. ثم صرتُ أعودُ إليه مرةً في العام على الأقلّ، في رمضان، مع أنني اقتنيت النشرتين الأُخريين. عملتُ أولاً خرائط لجغرافية الفتوحات، والبلاذري يتابعها حتى منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. ثم بعد الخرائط عملت فهرساً للأعلام؛ أي القادة الفاتحين. ثم عمدتُ للمقارنة مع تاريخ الطبري، وتبينت لي أخطاء كثيرة في أسماء الأماكن والأشخاص. ولشدة اعتزازي بما توصلت إليه أزعجتُ باكتشافاتي الدكتور صلاح الدين المنجد، رحمه الله، الذي كان قد أصدر بدوره نشرةً محققةً لـ«فتوح البلاذري»، تبينت لي فيها أخطاء معتبرة في قراءة النص.
لقد كان القصد من المقالة الحديث عن القراءة في شهر رمضان فلنعُدْ إليها.
منذ أواسط الستينات عرفتُ كتاب محمد أسد: «الطريق إلى مكة»، الذي يروي فيه قصة إسلامه. أهدت إدارة الثقافة بالمعهد الديني ببيروت الكتاب إلينا ضمن مجموعة كتب بقصد التشجيع على القراءة. وكان من ضمن الكتب اثنان للعقّاد، و«يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم، و«سندباد بحري» لحسين فوزي. بعد عشرين عاماً على واقعة الإهداء قابلت ناظر المعهد وكان قد صار عجوزاً متقاعداً وذكّرته بالهدية، وسألته عمن اختار الكتب المهداة عام 1966 فلم يتذكر وسأل عن سبب الاستخبار بعد هذه المدة الطويلة فقلت له: لأنّ الذي اختار الكتب آنذاك مثقف مطّلع ويمتلك عقلاً حراً!
أقبلتُ على قراءة كتاب محمد أسد في الليلة نفسها، في الرابع أو الخامس من شهر رمضان. وبالطبع كانت القراءة بالعربية وأظن أن اسم المترجم عمر الديراوي. فتنني الكتاب وما تلهيتُ باستكشاف أخطاء الترجمة والطباعة كما أفعل عادةً! وامتدّ اهتمامي به لأربعين سنة وأكثر. في كل رمضان أقرأ الكتاب. كما أقرأ كتب محمد أسد الأخرى. وعندما قرأت بألمانيا وأميركا لطلال أسد وقيل لي إنه ابنه، قصدته في نيويورك عام 1993 واستمعت إلى محاضراته، وهو قد صار منذ السبعينات وبعد نشره كتاب «مواجهات استعمارية» (1974) زعيم اتجاهٍ جديدٍ في الأنثروبولوجيا. وظللتُ أُلاحق البروفسور طلال أن يكتب عن والده، فلمّا فعل لإحدى المناسبات، عمدت إلى ترجمة تلك السيرة القصيرة ونشرتها في مجلة الاجتهاد. كنت أعتبر سيرة ليوبولد فايس (محمد أسد) ساحرة، واكتشفت أنها بالإنجليزية والألمانية أجمل وأرشق، وإن كانت الترجمة العربية جيدة أيضاً. وكم انزعجت حين غيرت «دار العلم للملايين» في النشرات اللاحقة عنوان السيرة إلى «الطريق إلى الإسلام»! هي طبعاً سيرته في إقباله على الإسلام، لكنّ عنوان إلى مكة ساحر أكثر. كنا بالقاهرة عام 67 أو 68، عندما وصلت مجموعة قصائد لمحمود درويش من الأرض المحتلة، ونشرها مثقف مصري تحت اسم «آخر الليل.. نهار»، وأقبل الأدباء على لومه؛ لأنّ الاكتفاء بآخر الليل أبلغُ بكثير وأجمل إيحاءً.
وكلنا قرأنا «الأيام» لطه حسين، لكنْ عندما تعرّفنا عليه بالقاهرة عام 1966 قال لنا: أين أنتم من «الشيخان» و«على هامش السيرة» و«الوعد الحق». وقرأتُ له «الشيخان» و«الفتنة» ومجموعة «حديث الأربعاء». لكنّ القراءة المستمرة في رمضان استمرت لعقود لهذين الكتابين الساحرين؛ «على هامش السيرة» ثلاثة أجزاء صغيرة، و«الوعد الحق» جزء واحد صغير الحجم أيضاً. لكن على طريقة العميد كأنما الكتابان مكتوبان كلمة كلمة، ويقال لنا إنّ الفصحى لا تحتمل دقائق الأحاسيس والصُّوَر، لكنّ فصحى طه حسين تستطيع التعبير عن أي شيءٍ يريده العميد ويسحرنا نحن القراء؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ من البيان لسحراً». في معرض أبوظبي للكتاب، كان طه حسين شخصية العام، وقد أعاد مركز اللغة العربية التعاقد مع دار المعارف المصرية بنشر كتب طه حسين كلّها، فكانت الفرحة كبيرة إذ عثرت في المجموعة على ثلاثة كتب ما كنت قد قرأتها من قبل.
ويمكن لأحدنا أن يغفل عن كتبٍ وشخصياتٍ لا يجوز إغفالها ولا جهلها أو تجاهلها بأي حال. وقد حصل ذلك معي أنا الذي جمعتُ عشرات ألوف الكتب بمختلف اللغات. عندما مضيت للتدريس بأميركا أستاذاً زائراً أولاً بهارفارد ثم بشيكاغو (1993)، عرفت لأول مرة في هارفارد كتاب جون راولز «نظرية العدالة» (1971)، وعرفت بجامعة شيكاغو كتاب مارشال هودجسون «تجربة الإسلام.. الوعي والتاريخ في حضارةٍ عالمية» (الصادر عام 1972 في ثلاثة أجزاء بعد وفاة المؤلف). «نظرية العدالة» كتاب صعبٌ، ويتطلب معارف جيدة في فلسفة القانون والفلسفة السياسية. وقد قرأته خلال أسبوع. ثم تابعتُ قصته والنقاشات التي أثارها ولا يزال يثيرها بحيث صدرت عشرات الكتب التي تضيف إليه أو تنقده. ومنذ ذلك الحين أقرأه في شهر رمضان كما أفعل الآن، وأضيف إليه واحداً من نقّاده مثل أماراتيا سن أو ماكنتاير.
أما مارشال هودجسون الذي مات كهلاً فقد كتب تلك الأعجوبة التي لم يستطع رؤيتها مطبوعة، واهتمت بها زوجته وتلامذته - فهو صاحب نظريةٍ في تاريخ الإسلام وحضارته تكاد تكون مبتكرةً في معظم أجزائها. ورغم كثرة المخططات الجيواستراتيجية التي يتضمنها الكتاب الضخم؛ فالحقيقة أنه عملٌ في «تاريخ الأفكار» مما تعرفتُ عليه خلال دراستي بألمانيا. هو يستخدم في عنوان الكتاب كلمة Venture وقد ترددتُ في ترجمتها بين مغامرة وتجربة عندما نشرت عن الكتاب والمؤلّف عددين من أعداد مجلة الاجتهاد (1998). لكن لكثرة قراءتي للكتاب في شهر رمضان صار لديّ يقين أنّ الترجمة الصحيحة هي: تجربة. ولذلك انزعجت عندما تُرجم الكتاب بأجزائه الثلاثة إلى العربية (وهي ترجمة جيدة) واستخدم المترجم في العنوان: مغامرة الإسلام! يقال إنّ الكتاب مِلك القارئ أو أنه يملك سلطة التأويل. أما لجهتي فأرى أنّ كتاباً مثل «نظرية العدالة» أو «تجربة الإسلام»؛ لا بد من قراءته إلى حدود الأُلفة لكي نتمكن من النفاذ إلى عقل المؤلّف وقلبه.
بعد «نظرية العدالة»، قرأت لراولز «العدالة باعتبارها إنصافاً» وهو عملٌ كتبه استدراكاً واستجابةً لنقدات الناقدين. هناك كتب تغيِّر العالم الفكري لدى الإنسان، وهي تتعدد حتى الاستعصاء على الحصر. ولذلك لا بد من السكينة والقناعة من خلال العودة إلى كتبٍ معينةٍ بشكلٍ دائم.