ما بين "سنغة عشرة" و"100 - 100" وصولاً إلى "60 داهية" وحتى "60 في 70"، تتوزع الحوارات اليومية للمواطن العربي، والغالبية لا يتوقفون كثيراً أمام حقيقة حيال أن هناك أرقاماً بعينها تتحكم في قاموسهم الشعبي المحكي، لتصبح بمثابة دليل إرشادي للتعامل مع بعض المواقف، فعلى رغم الغموض الشديد الذي يكتنف سبب اللجوء إلى تلك الأرقام بعينها لوصف حالة ما، إلا أنه من النادر أن يهتم أحد بالبحث عن أصول تلك العبارات التي على ما يبدو أنها تتنوع بتنوع الثقافات، فلكل منطقة في العالم شيفرتها السرية و"كودها" اللغوي في التعامل مع هذا العالم.
فإذا كان لدى القطط سبع أرواح لدى العرب، فهي تمتلك ستاً في الثقافة التركية، وتسعاً لدى بعض شعوب أوروبا، حيث تتعامل المجتمعات مع هذا المثل على أنه معلومة، على رغم عدم وجود أساس علمي أو واقعي لصحتها، من دون التدقيق أو التساؤل عن المغزى، فبشكل عام تختزل العبارات المتعلقة بالأرقام الكثير والكثير من الأفكار وتضعها في لفظين أو ثلاثة تعبر بشكل دقيق تماماً عما يدور في البال، إنها ثقافة لفظية متفق عليها ولغة تختصر أحاديث طويلة، ومصطلحات معقدة، لتعبر بسلاسة على الألسن وتؤدي الغرض المطلوب منها تماماً. وتبدو ملائمة للغاية لموقعها في الأحاديث اليومية وللموقف الذي تم استحضارها من أجله، حتى لو كانت السند الذي ترتكز عليه في استدعاء هذا المعنى الدقيق محض اجتهادات وربما أساطير بلا أدلة واضحة.
تعددت التفسيرات
نظراً لغرابة الارتكاز على أرقام بعينها لوصف وضع أو حالة أو موقف ما، فإن المرجعية العلمية التي يمكن الاعتماد عليها لتفسير الأسباب ربما تبدو منعدمة أو شحيحة للغاية، حيث نجد ندرة شديدة في ما يتعلق بالأبحاث التي تتناول تلك السياقات وإن وجدت فهي تحاول أن تقترب من الأصول التاريخية لتلك المقولات والألفاظ الشائعة، ويكون من الصعب الجزم بدقة الرواية أو صدقها بالكامل، إذ يرى الباحث صلاح سليمان، شاعر الحارة المصرية، أن تلك الأشياء بالطبع تخضع دوماً للاجتهادات ولكن هناك تعبيرات شبه متفق عليها، وبينها "سنغة عشرة"، وتعود أصولها إلى وحدة تستعمل في الميزان فـ "سنغ" الميزان بحسب معجم المعاني هو ما يوزن به كالأوقية أو الرطل. ويشير "شاعر الحارة المصرية" إلى أن "هذا التعبير يدل على أعلى درجات الأناقة"، مضيفاً أن "أقصى ما كان يمكن وضعه على الميزان قديماً هو عشرة كيلوغرامات، حيث يصبح حينها الميزان منضبطاً تماماً". ويتابع "المقصود هنا هو الشياكة والتجمل بشكل منضبط وملائم، فالسنغة تنتهي عند رقم عشرة وهي وسيلة الاتزان، حتى حينما تحول الميزان التقليدي إلى نظيره الإلكتروني لا يزال للرقم عشرة دلالته وقوته أيضاً". وهناك آراء واجتهادات أخرى لا تبعد كثيراً وبينها أن سنغة عشرة هنا مشتقة من "صنجة" التي كان يوزن بها الذهب قديماً وهي تقدر بعشرة ميلليغرامات، وبالتالي كان يقصد بها أن الأناقة توزن بميزان الذهب لشدة تميزها.
مدرسة فطرية
وفي حين ترجع بعض التفسيرات عبارة "100 فل و14" التي تُستخدم للتأكيد على الجودة، إلى الحضارة الفرعونية، مشيرةً إلى أن رسم هيكل الشخص ونقوشه على المعابد كان يتضمن 19 مربعاً طولاً و6 مربعات عرضاً وبما أن حاصل ضربهما ينتج منه 114 فمن هنا جاء التعبير الذي يعني جمال ومثالية ما يتم الحديث عنه، ولكن الباحث في التراث المصري صلاح سليمان يجنح إلى تفسير آخر وهو أن "100 فل و14 ترمز إلى 100 نجمة تحيط بالقمر، و14 ترمز إلى الفتاة الصغيرة في عمر 14 سنة، حيث تكون في قمة جمالها وبراءتها وكأنها قمر 14"، لافتاً إلى أن "هذه الأوصاف جاءت من عصور قديمة واستخدمها الناس وفقاً لنظرتهم إلى الكون ما قبل اختراع الكهرباء والوسائل الحديثة حيث كان القمر يظهر واضحاً والنجوم تبدو لامعة قبل التلوث وقبل بناء المباني الشاهقة التي تحجبه وتجعل رؤية النجوم عصية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نظرية الـ"60"
الملاحظ أن المجتمعات تعشق الاختصارات وتصر على الحفاظ على إرثها اللغوي المشترك وكأنه "كود" Code تأخذه معها من جيل إلى جيل، فمثلاً على الجانب السلبي هناك أرقام أكثر شهرة من غيرها، حيث يتربع رقم "60" على العرش تقريباً، ومن الأمثلة على المقولات الأكثر تداولاً في هذا السياق، نجد "60 نيلة، و 60 كلب، و60 في 70، و60 داهية"، والأخيرة على وجه التحديد قيلت بشأنها روايات عدة لم يتم التأكد من صحتها، وقد يكون أكثرها انتشاراً، ربطها باسم الصحابي قيس بن المكشوح المرادي الذي عاش في فترة صدر الإسلام، وخاض معركة ضد الفرس، حيث قتل الفرس من قبيلته 60 شيخاً من دهاة قومه، وحينما انتقم لهم سُئل عن سبب مبالغته في الدمار والخراب، فقال إن كل ذلك حدث في "ستين داهية" والمقصود مقابل ستين شيخاً، ليتم تحريف المقولة على مدار قرون وتُستخدم الاستخدام الحالي، وكأنها دعوة على البعض بالمصير السيئ.
وانتشرت على مدار سنوات تفسيرات عدة لاختيار رقم 60 بالتحديد في السب، أبرزها ذلك التفسير الذي يرجع أصله إلى الحضارة الفرعونية أيضاً وجاء فيه أن المصريين القدماء رسموا الكلب بتكوين مميز عبارة عن 10 مربعات عرضاً و6 مربعات طولاً، وبما أن حاصل ضربها يساوي 60 فمن هنا نشأ الربط السلبي، والتشبيه بالكلاب، ومن مشتقاتها أيضاً جاءت "60 في 70"، لكن الكاتب المصري والباحث في اللغة المصرية القديمة سامح مقار يشكك في هذا التفسير، قائلاً إنه "لا يوجد دليل على أن المصريين القدماء كانوا يحتقرون الحيوانات من الأساس، وبناءً على هذا الرأي، ليس منطقياً ربط الكلب بأسلوب مستهجن وانتقاد لاذع بهذه الصورة". وحاول الباحث إعطاء تفسير آخر، مشيراً إلى أنه مجرد فكرة يمكن تفنيدها ومناقشتها، حيث قال إنه يميل أكثر إلى ربط هذا الأمر بطبيعة الرقم 6 الذي هو يعبر عن النقصان في أغلب العقائد، في حين أن الرقم 10 يعبر عن التمام والكمال وبالتالي فحاصل ضربها يساوى 60 أي "منتهى النقص"، بحسب تعبير الباحث سامح مقار. ونفس التفسير ينسحب، من وجهة نظره، على تعبير 100 فل و14، فرقم 100 هو رمز للكمال والرقم 14 يشير إلى القمر في طور البدر، ضارباً المثل بأنه "يمكن القول أيضاً 100 فل وعشرة، فكلاهما يشيران إلى التمام والاكتمال".
الغموض والتناقض
وبتطبيق الفكرة نفسها، يتم تفسير تعبير "عشرة على عشرة" بسهولة أيضاً، حيث أن الوصف هنا يرمز إلى العلامة الكاملة والمثالية والنموذج الذي ينبغي السعي لتحقيقه. لكن على رغم كل تلك التأويلات، لا يزال هناك شيء غامض في اختيار أرقام بعينها من دون ما يسبقها من أرقام أو ما يليها لوصف مشاعر ما أو حالة محددة، فمثلاً لماذا نصف الشخص الذي ينام بعمق بأنه "راح في سابع نومة" وليس سادس أو ثامن أو تاسع، ومن ضمن التحليلات الشائعة أن الرقم سبعة من ضمن أرقام الكمال أيضاً، فالسماوات سبع، وأيام الأسبوع سبعة، ولكن الأمر يبدو مربكاً أيضاً حينما يتم استعمال الرقم نفسه للتعبير عن الإرهاق وكثرة البحث، كأن يقال "السبع دوخات"، أما تعبيرات مثل "ألف مبروك وألفين مبروك وألف سلامة"، فيتردد أن حروف الرقم ألف عند نطقها توحي بالألفة، وبالتالي يستعان به في المواقف التي تحمل معاني اللطف والترحاب والمحبة.
المؤكد أن اللغة المحكية في الحياة اليومية تمتلئ بالعبارت التي تحمل دلالة عددية متفق على معانيها وبينها "سبع صنايع والبخت ضايع، يضرب أخماس في أسداس، خمسة وخميسة"، حيث يرى "شاعر الحارة المصرية" صلاح سليمان أن "رسوخ تلك التعبيرات على مدار كل تلك العصور يعود إلى الاجتهاد الذاتي للإنسان في كافة المجتمعات، وكأنهم درسوا دراسة فطرية، جعلتهم يختارون كلمات وأرقام من دون الأخرى لتختصر مشاعرهم وأفكارهم ورؤيتهم".