«الأخبار الزائفة» صناعة رئاسية أيضاً

منذ 17 ساعة 15

لم تكن «الأخبار الزائفة» وافداً جديداً أطلَّ على عالمنا مع الفورة الاتصالية والتكنولوجية المعاصرة، كما قد يعتقد البعض، لكنها كانت عنصراً فاعلاً في الشؤون العامة للأمم المختلفة، وكانت أيضاً أداةً سياسيةً لطالما تم استخدامها في التضاغط والصراعات الدولية.

وبما أن الكذب رذيلة إنسانية، يلجأ إليها البعض أحياناً خوفاً أو طمعاً، أو لأسباب أخرى أقل أهمية، فإن تداول الأكاذيب ظلَّ مسألةً مفهومةً على مرِّ التاريخ؛ وهو أمر خرج من دائرة الحياة الشخصية والتفاعلات الاجتماعية، ليضحى أيضاً مسألة سياسية في عديد الأحيان.

ومع ذلك، فإن الاهتمام العالمي بـ«الأخبار الزائفة» اتخذ مساراً أكثر فاعلية وتأثيراً، عندما انبلج عهد وسائط «التواصل الاجتماعي»، التي ما لبثت أن غدت وسيلة الاتصال الأكثر انتشاراً في عصرنا، بما انطوى عليه ذلك من مُمكنات غير مسبوقة في التاريخ لآليات التزييف.

وفي عام 2017، تم تسليط الأضواء بقوة على مشكلة «الأخبار الزائفة»، وطرَح كثيرون مخاوفهم من شيوعها وآثارها الضارة، خصوصاً عندما قرر معجم «كولينز» للغة الإنجليزية أن يجعلها «كلمة العام»، لتصبح لاحقاً كلمة كل عام، وقاسماً مشتركاً في العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية، في دول العالم المختلفة، وبينها أيضاً.

لكن الجديد في هذا الصدد أن «الأخبار الزائفة» أصبحت عنصراً من عناصر الخطاب الرئاسي، وقد حدث هذا في الولايات المتحدة الأميركية، التي مرَّت بأوقات مضطربة ومثيرة منذ الانتخابات الرئاسية، التي جرت في عام 2016، وهي اضطرابات ما زالت تعاني آثارها المُربكة حتى هذه اللحظة، ومعها كثير من دول العالم.

وبعد كثير من الأكاذيب، التي غمرت هذه الانتخابات، ووصول دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة في ولايته الأولى، سمعنا بعض الإفادات غير المُثبتة، التي وردت على لسان الرئيس، والتي قدمها للجمهور بوصفها حقائق لا تقبل الدحض غالباً.

ولاحقاً، خلال ولاية الرئيس جو بايدن الوحيدة، بدا أن الأمور لم تتغير كثيراً، وهنا سنتذكر تصريحه الشهير، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي ذكر خلاله أن حركة «حماس» قامت بـ«قطع رؤوس أطفال إسرائيليين، في مستوطنات غلاف غزة، خلال هجوم طوفان الأقصى».

ولم يكتفِ بايدن بهذا التصريح، لكنه عاد وأكد أن الحركة «تخطط لمهاجمة إسرائيل مجدداً كما فعلت من قبل، وأنها ستقطع رؤوس الرُضع، وستحرق النساء والأطفال وهم أحياء». وبالطبع، فإن البيت الأبيض نفسه نفى لاحقاً هذه الأخبار، وأفاد بوضوح بأن تلك المعلومات «بُنيت على مزاعم مسؤولين إسرائيليين، ولم يكن هناك أي إثبات بشأنها، ولم يتم التحقق منها بشكل مستقل».

لكن ما حدث بعد هذه الواقعة في ملف «الأخبار الزائفة» كان أكثر إثارة؛ إذ انخرط بايدن في منافسة انتخابية حادة مع ترمب، ما لبث أن انسحب منها هذا الأول لمصلحة نائبته كامالا هاريس، التي أكملت الطريق وسط كثير من الأكاذيب التي تداولها المعسكران الديمقراطي والجمهوري كذلك.

وفي أتون معركة ترمب - هاريس، وخلال المناظرة الانتخابية الأولى بينهما، سيبرز «خبر زائف» جديد على لسان الأول، حين قال إن «المهاجرين الهايتيين في ولاية أوهايو يسرقون الكلاب والقطط، ويأكلونها»، وهو أمر روَّج له نائبه جي دي فانس أيضاً، وبعض أركان حملته الرئاسية. لكن السلطات المحلية في الولاية أكدت بوضوح أن «تلك المزاعم باطلة، ولا يوجد أي دليل يدعمها».

وفي الأسبوع الماضي، سجَّل النقاد، وبعض وسائل الإعلام، عدداً من «الأخبار الزائفة»، التي وردت على لسان الرئيس الأميركي أخيراً؛ ومن بينها تصريحه، في حضور نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بمعلومات عن المساعدات التي قدمتها واشنطن لكييف، وقد ثبت أنها غير صحيحة، فضلاً بالطبع عن تراجعه المُحرج عن وصفه زيلينسكي بـ«الديكتاتور»؛ وهو الأمر الذي ردَّ عليه هذا الأخير بقوله: «ترمب يعيش في مساحة من المعلومات المُضللة».

لم تكن تلك هي كل «الأخبار الزائفة»، التي تم توجيه أنظار ترمب إلى أنه يُروِّجها؛ إذ سعى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أيضاً، إلى «تصحيح» بعض المعلومات التي أدلى بها الرئيس الأميركي، خلال إفادات صحافية قدَّمها برفقة كل منهما، في الأسبوع الماضي.

يبدو أن «الأخبار الزائفة» لم تعد متعلقة بوسائل «التواصل الاجتماعي»، ولا اللجان الإلكترونية، والمستخدمين من شذاذ الآفاق، فقط، لكنها أيضاً باتت آلية اتصال حكومي، وهو أمر مُقلق ومُدهش في آن.

وإذا امتد خط «التزييف» هذا بلا انقطاع، فربما تصبح «الأخبار الزائفة» صناعةً رئاسيةً بامتياز، وهو أمر يُقوِّض مصداقية المنصب الرفيع، ويخلخل أركان السياسة نفسها.