الأجندة الجديدة للسلام... واقع قريب أم حلم بعيد؟

منذ 7 أشهر 96

أطلق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في يوليو (تموز) 2023 مشروعه «الأجندة الجديدة للسلام» ليكون إسهاماً أممياً في عالم مضطرب، وإرثاً شخصياً في منتصف ولايته الثانية والأخيرة، بعدما بدأ عهده بأفكار إصلاحية طموحة، شملت مثلث عمل الأمم المتحدة الذي يحوي قضايا السلم والأمن والتنمية وحقوق الإنسان، فضلاً عن مسائل الإدارة والميزانية.

واجهت ولاية غوتيريش عواصف دولية كبرى، فداهمت العالم جائحة «كوفيد - 19»، تلتها حرب طاحنة في قلب أوروبا بين الاتحاد الروسي وجارته أوكرانيا. ثم جاء «طوفان الأقصى» الفلسطيني والرد الإسرائيلي المدمّر للبشر والحجر ليدخل بالمنظومة الدولية والمنظمة الأممية إلى مأزق تاريخي ودوامة متجددة حادة من عدم القدرة على الفعل.

يتعلق مشروع الأجندة الجديدة للسلام بقضية حيوية للبشرية في سعيها المتعثر لتحقيق حلم السلام الدائم، فحالة السلام ليست الحالة الطبيعية، ولكن الصراع هو الأساس، ولذا يستلزم السلام أن يتم إنشاؤه وبناؤه للوصول إلى الحالة المنشودة.

الحديث عن «الأجندة الجديدة للسلام» يستدعي بالضرورة العودة إلى «أجندة للسلام» التي طرحها الأمين العام الراحل الدكتور بطرس غالي عام 1992. الأجندة التي طرحها غالي كانت في تقرير قدمه استجابة لطلب من مجلس الأمن دعاه إلى تقديم تحليل وتوصيات لتعزيز صنع السلام وحفظه، وكيفية استجابة الأمم المتحدة للصراع في مرحلة سادها تفاؤل ما بعد الحرب الباردة.

قدم غالي رده على شكل أجندة للسلام، تضمنت عدداً من العمليات الإضافية للدبلوماسية الوقائية، واقترح تعريفات مميزة لصنع السلام وحفظه. وأكد أهمية الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتبرير التدخل العسكري من دون موافقة أطراف النزاع. كذلك كان من إسهامات أجندة غالي تقديمها لمفهوم بناء السلام بعد الصراع.

بعد نحو ثلاثة عقود، وفي سياق مغاير تماماً، تقوم الأجندة الجديدة التي طرحها غوتيريش على دعائم - غائبة - ثلاث: الثقة والتضامن والعالمية في المعايير، بهدف إنجاز عمل متعدد الأطراف أكثر فاعلية من أجل تحقيق السلام، من خلال اثنتي عشرة توصية في خمسة نطاقات أساسية:

أول هذه النطاقات يتمثل بالوقاية على المستوى الدولي بالتعامل مع المخاطر الاستراتيجية والانقسامات الجيوسياسية، من خلال توصيتين تشملان إزالة الأسلحة النووية، وتعزيز الدبلوماسية الوقائية.

النطاق الثاني هو الوقاية من الصراع والعنف وتعزيز استدامة السلام، ويتضمن خمس توصيات تشمل تطوير نموذج فعال للوقاية، واستدامة السلام داخل الدول، وتسريع تنفيذ أجندة 2030 للتنمية المستدامة لمعالجة المسببات الكامنة للعنف، وتفعيل دور المرأة، ومعالجة انعكاسات تغير المناخ على السلم والأمن، وخفض التكلفة الإنسانية للتسلح المتزايد في ميزانياته، والمؤدي إلى تقويض قدرات التنمية، وإزهاق أرواح البشر.

ثم يأتي النطاق الثالث المتعلق بتعزيز عمليات السلام، بما في ذلك آليات الحاجة أحياناً إلى فرض السلام، متضمناً ثلاث توصيات، هي تعزيز الشراكات في عمليات السلام بين الأطراف ذات الصلة، ومعالجة الحالات التي تستلزم فرض السلام وليس فقط حفظه، ثم دعم عمليات السلام الأفريقية ودون الإقليمية في إطار التعاون الأممي مع المنظمات الإقليمية بموجب الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة.

يتطرق النطاق الرابع إلى مقاربات مبتكرة للسلام ومجالات الصراع الممكنة، فيطرح التوصية بمنع عسكرة مجالات التكنولوجيا البازغة والفضاء الخارجي، وتعزيز الابتكار المسؤول ذي الوجهة الإنسانية.

ويتناول النطاق الخامس والأخير تعزيز الحوكمة الدولية بالتوصية ببناء آلية أقوى للأمن الجماعي تعالج أوجه القصور التي كشفتها الممارسات في النظام الحالي.

يختتم غوتيريش أجندته الجديدة للسلام بتقرير أن رؤيته التي طرحها منطلقها الأمل والتفاؤل، وأنه رغم الصعوبات الجمة فتوقعه أن الدول الأعضاء ستنهض إلى مستوى التحديات. فما هو على المحك - على حد قوله - ليس مستقبل الأمم المتحدة، ولكن مجتمعاتنا ككل والإنسانية بأسرها.

إزاء هذه التحديات الكبرى التي تواجهها البشرية في عالم مضطرب، جاء طرح غوتيريش لأجندته الجديدة للسلام، وسط ظروف مغايرة ومحددات وتحديات مستجدة عن تلك التي طرح فيها الدكتور غالي أجندته الجديدة - آنذاك - فما أبعد الليلة عن البارحة.

ففي أجواء من القلق والوجوم، جاء احتفال الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2020 بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها، في ظلال جائحة «كورونا»، والأزمات الاقتصادية والمناخية والتوترات الجيوسياسية، ونظرات تشكك إزاء فاعلية المنظمة.

وتمت عملية تشاورية في إطار الجمعية العامة حول إعلان بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين تم من خلاله إعادة الالتزام بالتعاون الدولي وأسسه وآلياته، وتكليف الأمين العام بصياغة تقرير حول المتطلبات التي يحتاجها التعاون المتعدد الأطراف في القرن الحادي والعشرين.

في العام التالي، قدّم غوتيريش تقريره «أجندتنا المشتركة» ليكون مخططاً طموحاً يعيد تصور النظام المتعدد الأطراف. يعلن التقرير أن الإنسانية تقف عند نقطة انعطاف تاريخية، تتجه إما نحو الانهيار وإما الانطلاق والاختراق. ويشير إلى أننا وصلنا إلى نقطة تناقض كبرى، فالتعاون الدولي مطلوب أكثر من أي وقت مضى، ولكنه أصبح عسير التحقق أكثر من أي وقت مضى.

طرح غوتيريش رؤية تستجيب لواقع عالمنا الجديد وتحدياته الكبرى المشتركة والمستجدة، فكان الحصاد هو الأجندة الجديدة للسلام. فهل تنجح في إحداث واقع جديد أكثر مؤاتاة للتعامل مع قضايا السلم والأمن المتفاقمة في عالم اليوم، أم يظل السلام المنشود حلماً مراوغاً بعيد المنال؟

في ضوء الواقع والمعطيات الراهنة، والتوازنات الحرجة والاستقطاب الحاد ليس المنتظر حدوث اختراق جوهري، ولكن لا مناص من المحاولة والمراهنة - غير المضمونة - على أن قدراً من الحكمة الإنسانية قد يجد له في نهاية المطاف مكاناً وسط عالم جامح تتهدده الأخطار وتعصف به التحديات.

* دبلوماسي مصري - مندوب مصر السابق لدى الأمم المتحدة وعضو المجموعة الاستشارية لصندوق الأمم المتحدة لبناء السلام