الأب الروحي للبيروقراطية

منذ 1 سنة 296

ربما لم يدر في خلد عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر، أن نظريته (البيروقراطية) التي أطلقها في مطلع القرن العشرين (1900م) لتحسين شكل المنظمات، سوف تصبح «سُبّة» في جبين المؤسسات أو مثاراً للتندر.
فقد كان يسعى الأب الروحي للبيروقراطية نحو تقديم تصور شمولي وغير مسبوق للشكل الأمثل للمنظمات الكبيرة، حيث كان سائداً آنذاك النظام الإقطاعي وبعض من الممارسات الاستبدادية التي تغلغلت في المؤسسات. ولذا؛ فهو يرى أن المنظمات إذا ما كبرت أصبح من المهم أن تولي اعتباراً لست ركائز جوهرية، وهي ضرورة «تقسيم العمل»، أي يجب أن تقسم كل وظيفة إلى مهام صغيرة معرّفة بوضوح ومكتوبة. الركيزة الثانية «التراتبية» أو «هيكلة السلطة»، بمعنى ضرورة وجود مناصب في هيكل تنظيمي تربطها سلسلة من الصلاحيات أو الأوامر. والركيزة الثالثة «الاختيار الرسمي» للعاملين بحيث لا يكون متروكاً للمزاجية، بل للمهارات الفنية.
قد تبدو هذه الركائز بديهية في عصرنا، لكنها في القرن العشرين كانت نقلة نوعية في الفكر الإداري، حيث كان معظم الناس آنذاك منشغلين في الزراعة والرعي والمهن البدائية البسيطة، ولم تتوسع الرقعة الجغرافية للمعامل ولم تبلغ بعد هدير آلات المصانع شتى بقاع المعمورة.
ولذلك؛ فقد سبق ماكس عصره عندما دعا إلى ضرورة وجود «لوائح وقوانين رسمية» ومدونة، وإجراءات واضحة للعمليات (الركيزة الرابعة). أما في الخامسة، فكان يصف المديرين في المنظمات الكبرى باعتبارهم مهنيين فقط، وليسوا مُلاكاً لتلك الوحدات التي يرأسونها، وأطلق على ذلك «اتجاه المسار الوظيفي». بمعنى أنه لا بد أن يعرف كل مسؤول حدوده في هذا المسار. فقدم ربما للمرة الأولى في الأعراف الإدارية الحديثة مفهوم «الفصل بين المنصب الإداري وشاغله»، فلا يجب أن يورّث هذا المنصب لآخر أو يستأثر به الموظف مدى الحياة. وكانت الركيزة الأخيرة «عدم الشخصنة» impersonality، أي تجريد اللوائح والقواعد الرقابية من أي اعتماد على شخصيات أناس بعينهم فيجب أن تضع أمامها مصلحة العمل الجماعية وليس أفرادا بعينهم.
وقد اشتقت البيروقراطية من كلمتين، فرنسية (bureau) وتعني المكتب، ويونانية (kratein) وتعني الحكم؛ وذلك لضبط الأمور. وانتعش المفهوم في الثورة الفرنسية. غير أنه مع مرور الزمن بالغت المؤسسات في البيروقراطية فزاد ترهل المؤسسات؛ بسبب كثرة التواقيع، ومبالغات التدقيق، وسطحية الرقابة، فأصيب الجسد الإداري بالتخمة. حتى وصلنا إلى عصر «البيروقراطية التكنولوجيا» فتجد عدد الطلبات في المواقع والتطبيقات لا يقل عن البيروقراطية التقليدية، «فلا طبنا ولا غدا الشر» كما نقول في اللهجة الكويتية. أي أننا ما زلنا نعاني من بقايا سوء تطبيق مفاهيم نيرة عديدة في عالمنا العربي.