شكلت اكتشافات أثرية جديدة ومذهلة توصلت إليها دراسة طويلة الأمد استمرت عقداً من الزمان في إيطاليا، تحدياً للافتراضات التي كانت سائدة في السابق حول أفول الإمبراطورية الرومانية في المنطقة.
وترجح أعمال التنقيب الجديدة التي قادتها جامعة كامبردج أن المدينة المكتشفة في منطقة جنوب لاتسيو الحالية في إيطاليا، واصلت ازدهارها بصورة جيدة حتى القرن الثالث الميلادي، وهي الفترة التي كان يعتقد أن الإمبراطورية الرومانية واجهت فيها حالة عامة من التدهور.
وكشف التحليل الذي قام به الفريق للأواني الفخارية في الموقع، والذي نشر في العدد المنقح من دورية "التطور الحضري الروماني في إيطاليا" Roman Urbanism in Italy عن أن تدهور المدينة بدأ بعد نحو 300 سنة من التاريخ الذي كان مفترضاً في السابق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عندما شرع علماء الآثار في البداية بأعمال الكشف في موقع المدينة، التي كانت معروفة لدى الرومان باسم إنترامنا ليريناس، لم يتمكنوا من التنقيب إلا في شظايا فخار قديم.
ومع ذلك، كشف مسح جيولوجي عن صورة تفصيلية مذهلة لتخطيط المدينة بأكملها، مع مجموعة واسعة من الميزات الحضرية مثل حمامات عامة متعددة ومعبد ومخزن ومسرح.
كما أجروا مسحاً بتقنية "رادار قياس الأرض" وباشروا سلسلة من الحفريات الموجهة.
وقال المؤلف المشارك في الدراسة أليساندرو لاونارو: "لقد وجدنا مدينة مزدهرة كانت تتكيف مع كل التحديات التي تواجهها على مدى 900 عام. نحن لا نقول إن هذه المدينة كانت مميزة فحسب، بل هي أكثر إثارة للاهتمام من ذلك بكثير".
وأضاف الدكتور لاونارو: "نعتقد أن عديداً من المدن الرومانية المتوسطة الأخرى في إيطاليا كانت تتمتع بالقدرة نفسها على الصمود. وكل ما في الأمر أن علماء الآثار لم يشرعوا في تطبيق التقنيات والأساليب الصحيحة لرؤية [واكتشاف] ذلك إلا في الآونة الأخيرة".
وبحثت دراسات سابقة أجريت قبل نحو 40 عاماً في توزيع الشظايا الفخارية - قطع مكسورة من مادة خزفية - في التربة المحروثة فوق أنقاض إنترامنا ليريناس، وخلصت إلى أن استيطان المدينة بلغ ذروته في أواخر القرن الثاني إلى أوائل القرن الأول قبل الميلاد، قبل أن يتقلص في القرن الأول الميلادي.
لكن البحث الأخير تضمن تحليلاً أكثر شمولاً لعشرات الآلاف من القطع الفخارية الشائعة الاستخدام، مما يدل على أن المدينة الرومانية قاومت التدهور حتى الجزء الأخير من القرن الثالث الميلادي.
وقال الدكتور لاونارو: "افترض علماء الآثار استناداً إلى النقص النسبي في الفخار المستورد، أن منطقة إنترامنا ليريناس كانت منعزلة ومتدهورة، لكن تبين لنا الآن أن الأمر لم يكن كذلك".
ويعتقد علماء الآثار أن المدينة الإيطالية كانت مركزاً تجارياً مزدهراً في عهد الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر.
ويضيف الدكتور لاونارو: "كانت إنترامنا ليريناس تتمتع بموقع استراتيجي بين نهر وطريق رئيس، وشكلت عقدة مزدهرة في الشبكة الحضرية للمنطقة. وكان من شأن ذلك أن يصب بشكل كبير في خدمة مساعي يوليوس قيصر لتعزيز الدعم في جميع أنحاء إيطاليا خلال الحروب الأهلية".
ويقول الباحثون إن المدينة كانت على الأرجح جزءاً من ميناء نهري بين أواخر القرن الأول قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي.
ويوضح الدكتور لاونارو: "لم يكن ما تحتاج إليه الموانئ النهرية يقتصر على المخازن فحسب، فقد كان الناس يمضون كثيراً من الوقت في العمل، ثم يرتاحون في المناطق المجاورة، لذلك كانوا في حاجة إلى جميع أنواع وسائل الراحة، تماماً مثل تلك التي وجدناها هنا".
ويتابع "لقد مكن هذا الميناء النهري إنترامنا ليريناس من الاستفادة من التجارة بين أكينوم وكازينوم من جهة، وهما مركزان رئيسان في الشمال، وبين مينتورناي والساحل التيراني إلى الجنوب الشرقي. وكان من شأن ذلك أن يمثل عاملاً حاسماً لنجاح المدينة".
واكتشف علماء الآثار أيضاً بقايا مسرح مسقوف يحتمل أنه كان يتسع لـ1500 شخص في المدينة الرومانية.
قال الدكتور لاونارو: "إن حقيقة اختيار المدينة بناء مسرح مسقوف، مثل هذا المبنى الراقي، لا تتناسب مع كونها منعزلة ومتدهورة، فقد كان هذا المسرح رمزاً رئيساً للمكانة التي حظيت بها، وأظهر ما تمتعت به من ثروة وقوة وطموح".
ويقول الباحثون إنه حتى في المرحلة التي عانت فيها إيطاليا الرومانية، ظل مسرح المدينة على الأرجح قيد العمل.
وأوضح عالم الآثار أن "عدم الوجود المفترض للمسرح اعتبر دليلاً على تدهور المدينة... وكانت بقايا مسرح إنترامنا ليريناس المذهل موجودة طوال الوقت، ولكنها مدفونة بالكامل".
وجد الباحثون أيضاً أدلة تشير إلى أنه حتى عندما كانت بعض الحمامات المثيرة للإعجاب في إنترامنا ليريناس في حالة تراجع - في إشارة إلى التدهور المحتمل للإمبراطورية الرومانية برمتها في ذلك الوقت - فقد أبقاها بعض أعضاء المدينة قيد التشغيل من خلال التبرعات.
لا يزال من غير معروف كيف واجهت المدينة مصير الزوال في النهاية.
ولم يعثر علماء الآثار على أي طبقة من الرماد أو أي دليل آخر يشير إلى أن المدينة تعرضت للتدمير بطريقة عنيفة.
ويشتبهون في أن السكان هجروا المدينة على الأرجح قبل الغزو اللومباردي في أواخر القرن السادس الميلادي، إذ ربما كانوا يعرفون أن المدينة تقع على طريق رئيس لا مفر من أن تستخدمه الجيوش الغازية.