أذكر أنّ اليساري الأميركي الشهير نعوم تشومسكي قال مرة: الولايات المتحدة تتدخل غصباً عنها في العالم، وتنسحب عصباً عنها أيضاً! وكان يقصد بذلك أنّ المجمع العسكري - الصناعي هو الذي يدفع الساسة الأميركيين للتدخل لتغيير الأنظمة والحكومات، ثم إنّ التنافس بين القوى الدولية والثوران المحلي يعود فيخرجها ثم تبدأ عمليات فحص الضمير ووزن المصالح وتستمر في المضغ والاجترار عقوداً لبيان عوامل الفشل سواء في اتخاذ قرار التدخل، ولماذا فشل التدخل في إحداث النتائج التي كانت مرجوةً منه. هذا ما حصل في حرب فيتنام وما حصل في الحرب على العراق، وسيحصل الأمر نفسه بشأن غزو أفغانستان. والواقع أنّ التدخل الأميركي يحصل في إحدى حالتين: التنافس مع القوة أو القوى العالمية الأخرى - والحالة الأخرى شعور الأميركيين بفائض القوة والسطوة كما في حقبة الهيمنة (1990-2008).
لماذا هذا التقديم؟ لأنّ التنافس عاد على أشدّه كما يحصل مع الصين في جنوب شرق آسيا، وكما يحصل مع روسيا والصين في إفريقيا. التهديدات بين الصين وأميركا تحصل كل يوم، وفرنسا حليفة الولايات المتحدة في الأطلسي وفي إفريقيا تتساقط مناطق نفوذها في دول الساحل. وفيها جميعاً وبخاصةٍ في النيجر تملك أميركا قواعد عسكرية لمكافحة الإرهاب. وفي حين تهدد دول محيط النيجر وأهمها نيجيريا (إيكواس) بالتدخل العسكري لإحباط الانقلاب وتشجعها فرنسا؛ فإنّ الولايات المتحدة لا تزال لا ترى ضرورةً للتدخل العسكري. لكن للولايات المتحدة أيضاً حساسياتها القوية تجاه المنافسة الروسية، فقد تدخلت روسيا من خلال قوات «فاغنر» في مالي وبوركينا فاسو، ثم إنها أي «فاغنر» وعدت أخيراً انقلابيي النيجر بالدعم في وجه «إيكواس»!
يقول خبراء «الاستراتيجية الشاملة»: إنّ للاضطراب في المشهد العالمي ثلاثة أسباب: التنازع في العلاقات الدولية، ومشكلات الهويات الصاعدة، وأخيراً السيولة الناجمة عن تشنجات الجندر وتغييرات النوع والتي تعتدي على ثقافات المجتمعات، وتهدّد تماسُك الاُسر، والنظم التربوية.
سبقت المشكلات في العلاقات الدولية الناجمة عن الصراع على الموارد والمجالات، ما صار يُعرف في العقود الأخيرة بصراع الهويات. والهوية إما أن تكون إثنيةً أو دينيةً أو الأمرين معاً. والحروب الناشبة بعد الحرب العالمية الثانية كانت تُفسَّر دائماً بالصراع بين الجبارين. وصحيح أنها كانت تظلُّ محدودة، لكنها في الحرب الروسية - الأوكرانية توشك أن تصبح عالمية أو شاملة لأوروبا على أقلّ تقدير. والدليل على السوء المتزايد في العلاقات الدولية، أنّ الحروب السابقة كانت تجري بين الدول التابعة. ثم صارت الدول الكبرى تتدخل مباشرةً مثلما تدخلت الولايات المتحدة بأفغانستان والعراق، وتتدخل روسيا في الحرب ضد أوكرانيا.
لكن حتى في صراعات العلاقات الدولية، تلعب الهويات دوراً ملحوظاً حتى وإن لم يجر التنبُّهُ له دائماً. فالدولة القومية قبل الحرب الثانية وبعدها قام استقلالها على الهوية الخاصة والمتميزة التي تملكها، ولكل هويةٍ - منذ مبدأ مونرو- الحقُّ في إقامة دولة. وهكذا يذهب الأوكرانيون ويزعمون أنّ ذلك يعود لقرون عدة؛ في حين يُنكر عليهم الروس ذلك، ثم يعودون فيقرون بأنّ الخلاف مع أوكرانيا هو على مقاطعتين فقط (دونباس) بسبب وجودٍ إثني روسي قوي فيهما. ولأن العالم متَعبٌ من حروب الموارد والمجالات والهويات، يكثر الوسطاء، وتكثر مشاريع السلام، وأبرز ما حصل أخيراً في هذا الصدد اجتماع جدّة بدعوةٍ من المملكة العربية السعودية وقد حضرته أكثر من ثلاثين دولة بينها الصين.
الهويات الصاعدة إثنياً ودينياً والتي تُفضي إلى نزاعات شكلان: هوية صاعدة (= أقلية) في دولةٍ قائمة وتريد الانفصال الكياني باعتبار حقها في دولةٍ مستقلة - والهويات الإثنو/دينية التي تصطنعها أنظمة أو حكومات لتجمع الناس من حولها والبقاء في السلطة (= الشعبويات). أبرز نماذج النوع الأول الهوية الكردية الثائرة أو المتحركة في تركيا وإيران والعراق وسورية. في كلٍ من هذه البلدان حزب أو أكثر أو تنظيم أو حركة تحرير وبخاصةٍ في تركيا التي فيها أكبر الأقليات الكردية. وما خمدت حركة الوعي الكردي بالتمايز والانفصال طوال مائة عام، وكانت تتعرض لانتكاسة عندما تتعاون ثلاث أو أربع من تلك الدول على قمعها. وفي سنوات الحرب السورية والعراقية، تنفس الأكراد بسورية الصعداء، فأنشأوا كياناً بمناطقهم والمناطق العربية المجاورة، واستجلبوا حزب العمال الكردي المسلَّح بتركيا للدفاع عن مناطقهم، ويحظون الآن بالحماية الأميركية بحجة مكافحة الإرهاب. وإلى ذلك، عندهم وجودٌ مسلَّح في جبل قنديل على الحدود التركية - الإيرانية، كما عندهم وجود مسلَّح في سنجار العراقية، وعلى الحدود العراقية - الإيرانية. هل يتمكنون من إنشاء كيان مستقل في إحدى الدول الأربع، بالطبع لا، بسبب قوة الحكم في تركيا وإيران. لكنهم سيظلون شوكةً في خاصرة تركيا وإيران وسورية.
وقد حاول فريقٌ من مثقفي المسلمين بالهند إبّان الاستقلال الهندي عن بريطانيا (1947) إيقاظ وعي إسلامي خصوصي باعتبارها أنّ الإسلام يشكل هويةً تستحق دولة، فحصلوا على الانفصال، ثم انقسموا على الإثنية إلى دولتين، وما استطاعوا إنشاء دولةٍ ناجحةٍ في القطرين. بيد أنّ أعنف مظاهر وظواهر الهوية الإسلامية المتمردة، كانت في ظهور «القاعدة» ثم «داعش». وقد سقطت تلك الهوية المتخيلة للجرائم التي ارتُكبت باسمها وقد أرادت إنشاء دولةٍ دينيةٍ وما عرف تاريخ الإسلام قسوةً مشابهة على البشر والعمران.
ولنصل إلى مشكلٍ آخر من الاضطراب العميق يحدث على إنسانية الإنسان وعقله ودينه وأخلاقه وثقافته. ولا تهدف الهوية الجديدة التي يُرادُ اصطناعُها إلى إقامة دولٍ؛ بل إلى «تحرير» الإنسان من إنسانيته المعروفة. في إعلان الفاتيكان عام 2019 بعنوان: «الرجل والمرأة، كلاهما من خَلْق الله». ويشبه العنوان الآية القرآنية: «وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى». يقول الإعلان التربوي هذا: إنّ الاختلاف في الخَلْق من أجل التكامُل وبقاء الجنس الإنساني يراد تصويره بأنه ناجم عن ظروف تاريخية وثقافية. و«نظرية الجندر» هذه ترمي إلى إنكار الاختلاف الطبيعي بين الرجل والمرأة وخلْق مجتمع من دون اختلافاتٍ في الجنس والنوع، وتتجاوز التمايز البيولوجي، فتهدد كيان الأسرة وتماسكها، وتهدد بالتالي أخلاق التربية الإنسانية وعقلها. إنه يُعرض حتى على الأطفال خيار تغيير الجنس أو إلغائه، ويجري السعي لاشتراع قوانين «تحرِّر الخيار» حتى لدى الأطفال، وثقافة الأمان باسم «حرية الاختيار» المطلقة وهي تنتج إنساناً آخر تلغي فردانيته الفظيعة إمكانات بقاء الأسرة، وبقاء الإنسان «كائناً أخلاقياً». وهذا التلاعب بالهوية الإنسانية (وليس الدينية والإثنية فقط) يفوق في أضراره الهويات السياسية أو الدينية أو الإثنية؛ لأنه يتناول إنسانية الإنسان في الصميم.