استقر في وجدان السعوديين مبكراً أن المملكة العربية السعودية هي كما عبرت عنها فقرة كاشفة من كلمات أغنية وطنية مؤثرة: «عليها ومنها السلام ابتدا»، ولكن سياقها كمبدأ في السياسات الخارجية والرغبة الملحة السعودية في تكريس ما أصفها بـ«فضيلة الاستقرار»؛ أحد أهم مداميك الاستراتيجية السعودية النابعة من سلوك «الدولة العاقلة»؛ سياق وقصة يجب أن تروى مجدداً حتى لا تُنسى منذ «معاهدة الأخوة والتعاون الإسلامي» عام 1969 بين المملكة العربية السعودية وعدد من الدول الإسلامية، التي أسفرت عن تأسيس «منظمة التعاون الإسلامي» التي تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي، وتلتها رعاية سعودية بهدف الحفاظ على الاستقرار ومنطق الدولة منذ «اتفاق الطائف» لحل الأزمة اللبنانية الذي وضع حداً للحرب الأهلية الدائرة آنذاك... إلى رعاية «اتفاق الرياض» بين المكونات اليمنية 2014 عام، ثم حوار الداخل السوري الذي عقد في الرياض عام 2015 وشمل أكثر من 120 شخصية سياسية، ولا ننسى الحوار الوطني الليبي الذي عقد في جدة عام 2015 وضم عدداً من الأطراف السياسية والمجتمعية في ليبيا، ولا ننسى جولات عديدة للحوار بين الفرقاء في فلسطين كان أهمها حوار 2007 في أطهر بقاع الأرض مكة المكرمة، وتلته حوارات عديدة برعاية سعودية دون أي شعور منها متى ما رأت المناخ ملائماً للحوار من تكرار تلك الرعاية والاستضافة مجدداً كجزء من مرتكزات استراتيجيتها في مقاربة النزاعات والحرص على مصلحة الشعوب الذي بدا أيضاً في لحظات تاريخية فارقة أنه يميل إلى مصلحة الحفاظ على مكون الدولة أكثر من النظام، كما بدا في القبول بمآلات ونتائج ما حدث في الربيع العربي دون تدخل يمسّ رغبة شعب معين، وهذه أيضاً خصوصية سعودية بامتياز، إذا ما رأينا التدخلات المنحازة حتى في تشكلاتها وتطبيقاتها الغربية سواء في الغرب الأفريقي مع فرنسا أو الولايات المتحدة وأوروبا مع البراغماتية السياسية التي بدت في أكثر من موقع وتاريخ في مناطق من العالم خصوصاً في أميركا اللاتينية.
اليوم ما آلت إليه الأوضاع في السودان للأسف هو انقسام غير مسبوق بالمعنى الحرفي، حيث التداعيات لا تطال الجسد السوداني وإنما القلب منه وهو الجهاز الأمني، فالتشظي طال المؤسسة الواحدة إلى حد الاحتراب الذي يدفع ثمنه السودانيون ووطنهم غالياً، فمع كل تصدعات الربيع العربي إلا أن الدول التي استطاعت التجاوز ولو بشكل كامل كان عامل وحدة المؤسسة العسكرية شرطاً أساسياً.
وإذا كانت الثورات لا تتشابه والتاريخ لا يعيد نفسه، فالنزاعات والانقسامات المؤسساتية والأهلية أيضاً في كل مرة لها سياقاتها الخاصة ومنها في الحالة السودانية اليوم هو عدم ترجح الكفة لأي من الطرفين حتى الآن ووجود انقسام دولي وحالة لا حسم كما أن الداخل بأحزابه وسياسييه ونخبه يعكس الضحية مع عموم الشعب حيث ما زال محدود التأثير.
يد السلام السعودية اليوم ممدودة للفرقاء في السودان مع انطلاق المباحثات الأولية بين ممثلي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جدة منذ يومين بهدف محاولة لوقف الحرب المندلعة منذ قرابة شهر والعودة إلى مسار العملية التفاوضية، بمشاركة المدنيين في ضوء مبادرة تقودها السعودية وتحظى بمباركة المجتمع الدولي.
لكن اليد الحانية اليوم أيضاً أكثر تعبيراً عن أهمية السودان مع إعلان مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية أمس عن الحملة الشعبية لمساعدة الشعب السوداني، وتتضمن جمع التبرعات وتقديم مساعدات إغاثية وطبية للمتضررين.
التحدي الأكبر اليوم لدى طرفي النزاع في السودان وبشكل أساسي إنهاء نزف الدم والوطن وفرصة تاريخية أيضاً للأحزاب والفرقاء السياسيين نحو المسارعة بإعداد رؤية سياسية توافقية من شأنها أن تساهم في العودة بالسودان إلى الاستقرار متى ما ترافقت مع إنهاء النزاع العسكري، وعلى المصالحتين بين العسكريين والسياسيين أن تلتفتا إلى الشارع السوداني والشعب الذي عرف بكرمه وطيبته وجمال روحه بعيداً عن الغرق في تفاصيل المصالح الانتهازية.
السلام السعودي يراهن على تعافي وعودة السودان وشعبه الطيب سريعاً وهو مثل الزين الذي وصفه الراحل الطيب صالح في رواية عرس الزين: «يخرج من كل قصة حب كما دخل، لا يبدو عليه تغيير ما. ضحكته هي هي لا تتغير»، ويأمل العالم عبر الجهود السعودية أن يخرج كذلك ضاحكاً لم تغيره عواصف الأزمات المتكررة.