احتراق طبق بريغوجين وصلابة «الناتو» اللينة

منذ 1 سنة 225

يبدو أن العملية التي وُصفت بالتمرد أو الانقلاب التي نفذتها مرتزقة «فاغنر» بقيادة يفغيني بريغوجين، ووصلت إلى مسافة 200 كيلومتر فقط من العاصمة موسكو، وتخللها إسقاط طائرات تابعة لسلاح الجو الروسي ومقتل طيارين، تعصى على المنطق السليم، بعد اللقاء الذي جمع بريغوجين والرئيس فلاديمير بوتين. فقد أعلن المتحدث باسم الكرملين أن بريغوجين و35 من قيادات «فاغنر»، تلقّوا دعوة لحضور الاجتماع في موسكو، في تطوّر درامي مثير يفوق في غموضه روايات الأفلام، لا سيما أنها جاءت بعد خمسة أيام من وقف التمرد، ووصف بوتين قائد المجموعة وعناصرها بالخونة.

انتهى التمرد من دون توقيف أو مساءلة منفذيه، بعد صفقة أكثر التباساً أبرمها الكرملين معهم، وكان من المفترض بموجبها أن يغادر بريغوجين إلى بيلاروسيا برفقة مَن يرغب من رفاقه؛ لكن رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، نفى وجودهم في بلاده. فأين هو زعيم «فاغنر» وعناصرها؟ وما هي خططهم؟ وعلامَ اتفقوا مع بوتين؟ بالطبع تصعب الإجابة القاطعة في دولة مثل روسيا محكومة برأس واحد ومنظومة سياسية- مالية- عسكرية متماسكة، إنما ذلك لا يمنع محاولة فهم ما جرى في دولة عظمى تمر بمرحلة حرجة في حربها الخارجية وأوضاعها الداخلية.

البعض يعد حادثة التمرد مجرد تمثيلية من إعداد الكرملين، مستندين إلى أمور عدة، أبرزها سرعة انتهاء التمرد بشكل مفاجئ، وتراجع بريغوجين 180 درجة عن مواقفه، وعودته إلى حضن بوتين مع تبريرات غير مقنعة، وشخصية بوتين وتاريخه المخابراتي الذي يهوى ويتقن هذه الأنواع من الروايات. أما غاياته فهي تدور حول احتمالات ثلاثة: الأول هو رغبة بوتين إدخال قوات «فاغنر» إلى بيلاروسيا، وممارسة مزيد من الضغوط على الغرب، وبخاصة بولندا، بعد ما تردد عن نشر أسلحة نووية في أراضيها. الثاني بث رسائل متناقضة بعضها يشي بأنه ضعيف، ما يهدد الغرب بفوضى تعم روسيا من بعده، وقد تأتي بمن هم أكثر تشدداً وخطراً على السلم العالمي، وقد يفهم من هذا الاحتمال أيضاً أنه دعوة للتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا. أو رسائل معاكسة تعبر عن مدى قوة حكمه وتماسكه وقدرته السريعة والحاسمة على القضاء على أي تمرد. والثالث هو نفض يديه من مسؤولية ممارسات «فاغنر» الماضية والمستقبلية، وتصوير الجماعة على أنها تعمل بشكل مستقل تماماً عن الكرملين.

وضع الحادثة في خانة نظريات المؤامرة مبالغة، والأكثر رجحاناً اعتبار ما جرى حادثة تمرد، تبين لقائدها صعوبة تغيير مسار الأمور في موسكو، ما أجبره على التراجع والقبول بالصفقة الغامضة المعالم.

إذا كان الحسم في صحة أو عدم صحة هذه الاحتمالات صعب، فالسهل هو استشراف نتائج الحادثة على الداخل الروسي وبوتين شخصياً، وعلى مسار الحرب في أوكرانيا ومكانة موسكو ودورها بوصفها دولة عظمى.

حتى إذا حُلت الأزمة المباشرة، فلا شك أن تبعاتها ستضعف النظام وتعرضه مستقبلاً لمخاطر كثيرة، إذا لم يدفع بريغوجين ثمناً باهظاً لتمرده. ولا شك أيضاً أن ما جرى يشير إلى شقوق بالغة في جسم المجموعة الحاكمة، رغم المصالح الكبيرة التي تشد أواصرها.

والأرجح أن ما مكّن بريغوجين من الإفلات من العقاب بعد اتهامه بالخيانة والتمرد، هو شبكة المصالح المالية والاقتصادية لأفراد هذه المجموعة، والتي تستند إلى جهات فاعلة في القطاع الخاص خارج سلسلة القيادة العادية، ولبريغوجين دور مهم وفاعل فيها وفي حمايتها. فالنظام الروسي لا يعتمد على المؤسسات؛ بل على شبكات غير رسمية مع بوتين باعتباره الرجل القوي. وعندما يكون بوتين قوياً، فإن هذا النهج ينجح إلى حد ما؛ لكن عندما يضعف يمكن للأضرار أن تطول الجميع. هذا في الداخل، أما بالنسبة للحرب في أوكرانيا، فمن المتوقع أن تؤثر نتائج ما يحصل في الداخل سلباً على أهداف موسكو من الحرب، لا سيما مع خروج قوة «فاغنر» من المعادلة العسكرية. وسواء تم استيعابها في الجيش الروسي أو حلها، فإن أعضاءها أعيد توزيعهم جزئياً على وحدات مختلفة، ومن غير المستبعد أن تتزعزع الروح المعنوية والقتالية لدى الجنود بمجرد أن يفقد الجيش الثقة في قادته.

ومن نتائج التمرد السلبية على موسكو، تقويض علاقاتها مع جيرانها وحلفائها، مثل كازاخستان التي وصفت التمرد بـ«الشأن الداخلي»، إبان الاتصال الذي أجراه بوتين مع رئيسها قاسم جومارت توكاييف. ولا يختلف موقف الرئيس الأرميني كثيراً عن كازاخستان. هذه المعطيات قد تؤدي إلى تراجع قوة الكرملين في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وتطلع دولها لتنمية علاقاتها مع الغرب بقيادة واشنطن، ومع الصين وتركيا.

وستؤدي انتفاضة بريغوجين أيضاً إلى تأثر شراكة روسيا مع الدول الأفريقية؛ حيث لـ«فاغنر» وجود كبير، لا سيما مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا والسودان.

بالنسبة إلى موقف الصين، فهي لن تتخلى عن بوتين، أما إذا تعثّر الوضع في موسكو فمن المرجح أن يؤدي فقدان الشريك الاستراتيجي الرئيس للصين إلى تعميق انعدام الثقة والتشدد مع أميركا، بدلاً من التوافق السياسي أو الاقتصادي.

على المقلب الآخر، انعقاد قمة قادة حلف «الناتو» في عاصمة ليتوانيا، فيلنيوس، وتوسعه رغماً عن إرادة موسكو بضم فنلندا والسويد، أكد أن مستقبل أوكرانيا يقع داخل الحلف، لا سيما مع إعلان القمة إنشاء مجلس «أوكرانيا- الناتو» في خطوة تؤكد دعم كييف في مواجهة تهديدات روسيا؛ لكنها لا ترقى إلى حدّ ضم كييف إلى «الناتو»، وفي ذلك خشية من دخول حرب مباشرة مع موسكو.

إلى هذا، المقررات التي صدرت تؤكد على ثوابت «الناتو» والغرب بعامة تجاه روسيا والحرب في أوكرانيا، إنما تحمل أيضاً ملامح التريث والرغبة في الحوار والتسوية. وليس اتصال ويليام بيرنز رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مع نظيره الروسي سيرغي ناريشكين غداة انتفاضة بريغوجين، وما صرّح به بايدن بعد القمة من هلسنكي، من أن الهجوم الأوكراني المضاد «سوف يفضي إلى المفاوضات» وتسوية الأزمة، سوى تعبير عن خشية الغرب من الفوضى والفراغ في روسيا، ويؤكد أن غالبية دوله بقدر تصميمها على منع بوتين من الانتصار لا تريد هزيمته.