إن كان القرآن العظيم لا لبس فيه فلماذا اختلف المفسرون

منذ 1 سنة 432

الإجابة:

فإن القرآن الكريم هو كتاب هداية للبشرية جمعاء، أنزله اللهُ معجزة لرسوله الخاتم؛ لتذكير البشر وإنذارهم وتبشيرهم، وإخراجهم مِن ظُلُمات الضلال والمعاصي إلى نور الهدى والطاعات؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 1، 2]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِي* مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِي* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 40 - 44].

 وقد فصلت آيات القرآن العظيم وفق الأغراض والأهداف، ووفق أنواع الطبائع والعقول، ووفق البيئات والعصور، ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة، وغيرها من أغراض القرآن، فالتفصيل المحكم وفق هذه الاعتبارات سمة واضحة في هذا الكتاب العظيم، كما تضمَّن التشريع الرباني الذي شرعه الله للثقلين، وتعبدهم بالعمل به، والتحاكم إليه؛ قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]، وتضمَّن كثيرًا من الحقائق العلمية التي اكتشفَ الناس بعضها لما تطورت الاكتشافات العلمية، وقد يكون الباقي عليهم أكثر؛ لأنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلًا؛ كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فأخبر سبحانه أنه سيريهم الآيات المرئية المشهودة الأفقية والنفسية حتى يتبين لهم أن القرآن حق، فيتطابق العقل والسمع، ويتفق العيان والقرآن، وتصدق المعاينة للخبر، كما قال تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37]، وقال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وقال تعالى {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، فالله سبحانه يُرى الآيات المشهودة ليبين صدق الآيات المسموعة، مع أن شهادته بالآيات المسموعة

والحاصل أن القرآن الكريم قد اشتمل على الكثير الطيب من مصالح المعاش والمعاد، وأحاط بمنافع الدنيا والدين؛ تارةً إجمالًا، وتارةً عمومًا، وتفصيلاً.

أما آيات سورة الزمر {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27، 28]،  فالقرآن العظيم بلفظ عربي مستقيم، واضح، لا لبس فيه ولا عوج ولا انحراف، يخاطب الله فيه الفطرة بمنطقها القريب المفهوم، وهذا مثل من الأمثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون، ففيه من جميع المقاييس والأمثال المضروبة لأجل التذكير، ودعى في هذه الآية الكريمة إلى التذكير والاعتبار بما فيه من الأمثال؛ وذلك يتضمن النظر والاستدلال.  

جاء في ظلال القرآن عند قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]: وقد ثبت هذا التحدي وثبت العجز عنه، وما يزال ثابتاً ولن يزال، والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان، وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية، والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة، كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال، ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه.

فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا، وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها.

والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب، والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً.

ومع تقدير العجز سلفاً عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري.

إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز عن الأداء البشري إن له سلطاناً عجيباً على القلوب، ليس للأداء البشري حتى ليبلغ أحياناً أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً، وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول- وإن لم تكن هي القاعدة- ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل.

إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حين يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضاً! مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو، ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال؛ ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال، ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعاً.

وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص، وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات، وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها، بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى! ويبدو في كل مرة أصيلاً في الموضع الذي استشهد به فيه وكأنما هو مصوغ ابتداءً لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها.

وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضراً، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر ولا يملك الأداء البشري تقليدها؛ لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلاً في مثل هذه المواضع:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وإلى هنا هي قصة تحكى، ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 91، 92]، ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام: 19]، وإلى هنا أمر يوجه ورسول يُتلقى، ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} [الأنعام: 19]، وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه- وأجابوه! -: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام: 19].

وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ* يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 128 - 131].

وأمثالها كثير في القرآن كله. وهو أسلوب متميز تماماً من الأسلوب البشري، وإلا فمن شاء أن يماري، فليحاول أن يعبر على هذا النحو، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم فضلاً على أن يكون له هذا الجمال الرائع، وهذا الإيقاع المؤثر، وهذا التناسق الكامل!

هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعاً، ويبقى الإعجاز الموضوعي والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه.

إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها، فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة، وقلبها الشاعر مرة، وحسها المتوفز مرة، ولكنه يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق، ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها، وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الدقة وهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً!

أنه يمتاز عن كل المناهج:

أولاً: بكونه يعرض الحقيقة- كما هي في عالم الواقع- في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها، وهو- مع هذا الشمول- لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها، ولم يشأ الله سبحانه رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور، أو إدراكهم لها، متوقفاً على سابق علم لهم، إطلاقاً؛ لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى، والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله، ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم، ولطلب أية معرفة؛ لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفاً على علم سابق؛ ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم - بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم- كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن". اهـ.

أما الخلاف بين السلف في التفسير فقليل، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، كما بيّن هذا وشرحه شرحًا وافيًا شيخ الإسلام ابن تيمية وستجده على موقعنا في فتوى: "فصل في ذكر خلاف السلف في التفسير".

مع الأخذ في الاعتبار أن الاختلاف ليس سببه اللبس، وإنما الخلاف دليل على أن المعنى واضح جلي ولكن كل يفسره بما فهمه، على ما سنقرره في ذكر أقسام الاختلاف في التفسير:

القسم الأول: الاختلاف في اللفظ دون المعنى، وهذا لا تأثير له في معنى الآية؛ مثل الاختلاف في تفسير كلمة (وَقَضَى)، في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الاسراء: الآية23]، قال ابن عباس: قضى: أمر، وقال مجاهد: وصَّى، وقال الربيع بن أنس: أوجب، وهذه التفسيرات معناها واحد، أو متقارب، فلا تأثير لهذا الاختلاف في معنى الآية.

القسم الثاني: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد بينهما، فتحمل الآية عليهما، وتفسر بهما، وكل واحد من القولين ذكر على وجه التمثيل، لما تعنيه؛ مثل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [لأعراف:175]، قال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل، وعن ابن عباس أنه: رجل من أهل اليمن، وقيل: رجل من أهل البلقاء، والآية محتملة لهذا كله.

القسم الثالث: اختلاف اللفظ والمعنى، والآية لا تحتمل المعنيين معاً للتضاد بينهما، فتحمل الآية على الأرجح منهما بدلالة السياق أو غيره.

ومثل اختلافهم في المراد قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، فقيل: الوجه والثياب، وقيل: الوجه والكفّ، وقيل: الكحل والخضاب والخاتم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (22/ 109-112): "والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال: ابن مسعود ومن وافقه: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم.

وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية، فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد.

وقيل: لا يجوز وهو ظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك. وحقيقة الأمر: أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]، حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش فأرخى الستر ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه فحجبها، فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ، والجلباب: هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها ومن جنسه النقاب: فكن النساء ينتقبن، وفي الصحيح أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب:-  كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين". اهـ.

هذا؛ والله أعلم.

.