زيد وعمرو كلاهما معرفة، وكلاهما يدعوني إلى بيته ضيفاً. لكنَّ هناك فارقاً كبيراً في الاستقبال. زيد بشوش، سمح، يسأل عن أخباري ويهتم بمساعدتي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأحياناً يرفع سماعة الهاتف في وسط حوارنا لكي يستفسر من أصدقاء عن نصيحة تنفعني فيما أنا عازم عليه.
أما عمرو فشكَّاء بكَّاء، يسألني عن أخباري بدافع الفضول، ويحاضرني كثيراً في سلوكي واختياراتي، ويعبس في وجهي نصحاً لي إن علم عني ما لا يعجبه، وغرضه في أي موضوع نتحاور فيه كيف يخرج هو بمصلحة منه.
في ظنكم، أي البيتين أزور؟
إن كانت زيارة البيتين مجانية فلن أزور بيت عمرو إلا مضطراً، وسأفضل زيارة زيد بلا شك. أما إن صارت الزيارة بتكلفة معتبرة، أو سرت بين الناس عادة تلزم الضيوف قطعَ تذكرة زيارة، فأكيد أنني لن أزور عمراً أبداً. لن أدفع أموالاً لأتكدر.
عود على بدء، كان زيد عطوفاً ودوداً سمحاً بشوشاً، سواء كسب من استضافتي أم لا. هذه ثقافة راسخة فيه. عبرت عن نفسها بـ«مهارات اجتماعية» معينة. حين تصبح الاستضافة مصدر كسب سيكون زيد الأكثر جهوزية للاستفادة منه، لأنه يملك مهارات الاستضافة بالفعل.
هكذا المجتمعات أيضاً. ثقافتها الراسخة المتداولة تنتج مواطن قوتها ومواطن ضعفها. مهاراتها تحدد القطاع الذي تنجح فيه، والذي تفشل فيه. إن دعونا إلى الاهتمام بالسياحة مليون مرة في اليوم، لكننا لم نمتلك مهارات الضيافة وثقافتها وأخلاقها وقيمها، فلن يكون السعي إلى الكسب المادي وحده كافياً لتحقيق الهدف. مهارات الضيافة سهلة في ألفاظها، عميقة في تفاصيلها، مرتبطة بنسخة الدين الشائعة في البلد، وبالنظر إلى الآخر، وبسعة الأفق، وفهم علاقة البيئات المختلفة بقيمها.
شركات التكنولوجيا أضخم شبكات العالم ربحاً. لكن من الصعب أن تقرر دولة ما أنها ستدخل هذا القطاع بقوة وأن تنتظر نصيباً سريعاً من مكاسبه. عليها أن تنمي المهارات التي يحتاجها هذا القطاع، ثم يحدث المكسب من تلقاء نفسه.
الصين تحولت إلى مستودع العالم، ليس فقط بسبب عدد البشر فيها، بل بسبب المهارات وآداب العمل، التي يملكها هؤلاء البشر.
كل شيء في الحياة، العملية كما الشخصية، اختيارات. من السهل أن نتلفظ برغبتنا في تحقيق غرض ما، بينما نوجه كل جهدنا إلى تنمية مهارات شيء آخر. نتحدث عن الأداء السياسي، ونعزز مهارات «الثورية» وعقليتها، نتحدث عن التطور الاقتصادي، بينما تعزز مهارات استجلاب البركة. طرفا المعادلة هنا ليسا خيراً مقابل شر. إنما غرضان لا يصح أن تسعى إلى واحد منهما وتنتظر تحقيق الثاني.
المجتمعات التي تضع تركيزها على الخطابة تواجه مشكلة كبرى. لأن مهارات البلاغة تشجع على التدليس الذاتي، والتضليل الارتدادي، تتحدث عن كل الأغراض حديثاً جيداً، لكنها في الحقيقة لا تتخطى مهارات الحديث الجيد.
الخطابة هي النطاق الذي تشعر فيه تلك المجتمعات بالراحة، توفر عليها عناء امتحان الأمور أخلاقياً، أو اختبار الخطط واقعياً. تكره هذه المجتمعات الإنصات إلى الحجج المقابلة في الجدل لأنها تعتبر ذلك هزيمة في ثروتها الحقيقية. الخطابة بالنسبة لها خطوة أولى مريحة نحو الإصلاح، وغالباً خطوة أخيرة أيضاً. كلما فشلت عادت مجدداً إلى الخطابة مع تغيير الأسلوب. في النهاية يفضل الإنسان فعل ما يجيد.
الإمبراطور ميجي، وينظر إليه على نطاق واسع بوصفه واضع حجر الأساس لليابان الحديثة، اتسم عهده بشيوع ثقافة مجتمعية تعتبر أن «الخطابة هي التضليل»، ومعها اتسمت حقبة ميجي بتوجه اهتمام المجتمع نحو العلوم التطبيقية ولغة الأرقام، بعد أن كانت البلاغة والشعر التقليدي أهم ما يتعلمه اليابانيون.
هذا الموقف السلبي من الخطابة، الذي شاع إلى درجة تدوينه ضمن السمات الأساسية لحقبة تاريخية، يبدو لأول وهلة عنصراً غريباً في وصفة تطور أمة. لكنه منطقي تماماً حين تنظر إلى تجارب الدول عن قرب. وبالتأكيد لم يكن ذلك لينجح إلا مع إجراءات أخرى لا تقل أهمية. الإمبراطور ميجي شن حرباً على الساموراي، فخر اليابان، الذين لا نزال نتحدث عنهم حتى الآن بصفات أسطورية.
والسبب الجزئي أن هؤلاء نظروا لأنفسهم على أنهم حماة «الثوابت» اليابانية، فكانوا على طرف نقيض من التحديث، وهو تعريفاً، سعْي إلى تغيير. وكونهم طرفاً مسلحاً جعلهم أشبه بما نطلق عليه في وقتنا الحالي ميليشيا آيديولوجية. لم يكن هذا قراراً سهل العزم، ولا يسير التنفيذ. الساموراي تمتعوا إلى جانب قدراتهم العسكرية بنفوذ اجتماعي واقتصادي، وباحترام في المجتمع الياباني.
سيلفت هذا نظرنا إلى تجارب أخرى. حين نقرأها في كتب التاريخ نتوقف عند حدود مفرداتها، بدل أن نوسع تفكيرنا إلى مرادفاتها. سنلحظ أن كل حركة تطور واكبها بلا استثناء صراع فكري، صراع على القيم وعلى المهارات الحيوية المطلوبة في ذلك العصر... ثقافة المجتمع ميدان انطلاقه.