إلى أين قافلة ترمب؟

منذ 14 ساعة 20

ينطلق الرئيس الأميركي دونالد ترمب في مسيرته، غير عابئ بالانتقاد والنهي والرفض، مهما علت الأصوات وبلغ الصدى. فقد أولاه انتصاره في معركة الرئاسة الأميركية، وسيطرة حزبه على مجلسي النواب والشيوخ، ونجاته شبه العجائبية من محاولة اغتياله، الشعورَ الطاغي بأنه «رجل القدر»، الذي يقول ما يريد، ويفعل ما يريد، متى وحيثما يريد، بلا رقيب ولا حسيب، وهو واثقٌ تماماً من امتلاكه، دون سواه، الحقيقة، والقدرة اللامتناهية على الفعل والتأثير على رأس الدولة الأقوى في العالم.

لكن يبقى السؤال الأهم: إذا كانت القافلة تسير... فما وجهتها النهائية؟ الوجهة النهائية، تلك هي المسألة.

جهة أوروبا، تستمر الحرب الروسية - الأوكرانية، التي أطلقها بوتين بصورة صاعقة على كييف قبل ثلاث سنوات، متهماً النظام الأوكراني بـ«النازية»، وبقرب انضمامه إلى حلف شمال الأطلسي، والتي سقط خلالها مئات آلاف القتلى من الجانبين وألحقت بأوكرانيا دماراً مادياً وتراثياً هائلاً، فضلاً عن ضم الروس أربع مقاطعات حدودية أوكرانية، وتوغّل أوكراني محدود في الأراضي الروسية.

اعتقدَ ترمب أنه يستطيع إنهاء الحرب بـ «مكالمة هاتفية». أجرى مكالمته الطويلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأحضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى البيت الأبيض، وقرَّعه أمام وسائل الإعلام على نحو غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية. ثم ماذا؟ بنى ترمب حسابه لإنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية بسرعة البرق على المعطيات التالية: المتحاربان منهكان وخسائرهما فادحة. أوكرانيا لن تستطيع الصمود إذا قطع عنها ترمب المساعدات العسكرية والمالية الضخمة، ولو استمرّت أوروبا في دعمها. هكذا، يُجبر كييف على التخلي لروسيا عن المقاطعات الحدودية الأربع، ويمنعها نهائيّاً من دخول الحلف الأطلسي، فترضى موسكو ويحلّ السلام. وتحصل أميركا، فوق ذلك، على مناجم أوكرانيا من المعادن الثمينة.

لكن خفيَ عن «رجل الأعمال» أن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، خصوصاً وطأة التاريخ المتغلغلة فيها وبُعدها القيمي، اللذين لم يأبه بهما ولم يأخذهما في الحسبان. وذلك على الجانبين. على الجانب الروسي، لا يسعى بوتين إلى حل شامل متسارع، ولا يرضى بالمقاطعات الحدودية الأوكرانية الأربع كحلٍّ نهائي للنزاع الروسي - الأوكراني، بل كحلٍّ مرحليٍّ لا أكثر. فعقيدته القومية الروسية المتشددة -وهي أيضاً عقيدة المفكرين المحيطين به- لا تعترف بوجود الدولة الأوكرانية، التي يجب تفكيكها ودمجها. مقابل ذلك، جهة الجانب الأوكراني والأوروبي، لا حلَّ يُرجى إذا لم يكن شاملاً ونهائياً، وقائماً على ضمانات أطلسية وأميركية حاسمة، تَحول دون أي خطوة عسكرية روسية أخرى في المستقبل. فمعظم دول القارة الأوروبية ترى في أوكرانيا حصنها المتقدم، وترى أن شعبها يبذل دمه دفاعاً، ليس عن بلاده فحسب، بل عن أوروبا والغرب كله أيضاً. وإذا تركوا أوكرانيا تنهار فلا شيء سيَحول بعد ذلك، في نظرهم، دون اتساع «الأطماع الروسية» لتجديد الهيمنة على شعوب أوروبا الشرقية. وحتى بريطانيا، حليفة الولايات المتحدة الدائمة، متضامنة مع أوروبا بشدة في موقفها، وإن كانت تسعى، مع إيطاليا، إلى التوفيق بين ضفتي الأطلسي صوناً لوحدة الغرب.

هل تسهم مبادرات ترمب في حل النزاع الروسي - الأوكراني، أم تزيده تعقيداً؟ إن رغبة ترمب في إنهاء الحرب العبثية في أوكرانيا هي في حد ذاتها رغبة سامية تستحق التقدير، لكنْ شرطَ أن تؤدي إلى سلام دائم في أوروبا، لا أن تكون ممّراً إلى حروب أخرى، أكبر وأخطر. وإذا استمر ترمب في محاولة تحطيم زيلينسكي، وقطع المساعدات كافة عن أوكرانيا، وأدّى ذلك إلى هزيمة الأوكرانيين على الرغم من التضحيات الكبرى ودعم الحلفاء على جانبَي المحيط، فهل تستطيع إدارة ترمب تحمّل مثل هذا الانهيار وانعكاساته الضخمة على أوروبا والغرب؟

وإذا كان ترمب يأمل، لقاءَ إتاحته الانتصار الروسي، أن تبتعد روسيا عن الصين، التي هي في نظره «العدو الأساسي»، فحسابه ليس مضموناً قط. فمثل هذا الانقلاب العميق المفاجئ في مواقف دولة عظمى كأميركا، لمجرّد الانتقال من رئيس لآخر، لن يدوم عهده أكثر من أربع سنوات تمرّ سريعاً، لن يُقنع القيادة الروسية بالابتعاد عن الحليف الصيني الثابت للتقرب من «الحليف الأميركي» المتأرجح. والحَذَر البالغ من التقلّبات الأميركية بات منذ الآن السمة الغالبة لعلاقة مجمل الدول، وليس روسيا فحسب، بحكم ترمب، في السرّ أو العلن. ولن تعدم الصين من استغلال الواقع الدولي الجديد، على المديين القريب والأبعد، لتوسيع حضورها في العالم. وما بقي من قيم الغرب لن يخرج سالماً من العاصفة.