إسرائيل و«توريط» مصر في غزة

منذ 4 ساعة 15

بين الحين والآخر تستهدف إسرائيل دعائياً وسياسياً مصر ودورها في القضية الفلسطينية، سعياً وراء توريطها في تحمل أعباء أمنية واستراتيجية في قطاع غزة، لم تستطع تل أبيب تحقيقها رغم الكم الهائل من القتل والدمار الذي أنجزه جيشها في القطاع خلال 15 شهراً. آخر الأفكار ما طرحه يائير لبيد، زعيم المعارضة، أن تقوم مصر بالوصاية على القطاع ما بين 8 إلى 15 عاماً؛ أمنياً بحيث تتولى نزع سلاح حركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى، وإدارة شؤون القطاع في المجالات الحياتية، وأن تتولى جهود إعمار القطاع بالمشاركة مع الولايات المتحدة والدول المانحة عربيةً وغير عربية. ولم ينسَ لبيد أن يقدم إغراءً كبيراً لمصر تمثل في إسقاط ديونها بمشاركة دولية جماعية متدرجة عبر عدة سنوات، وبما يعزز من وجهة نظره الوضع الاقتصادي المصري، ويخرجه من أزمته.

خطة توريط مصر على هذا النحو تُحقق لإسرائيل كل ما تتمناه بشأن اليوم التالي لغزة، إذ تنهي دور أي جهة فلسطينية، بما فيها السلطة، ومن ثم يتم سلخ القطاع من أي جهود قد تُطرح لاحقاً بشأن حل الدولتين الذي تتمسك به الدول العربية كحل تاريخي للقضية الفلسطينية، ومن جانب آخر أن تقوم مصر بالمهام الأصعب أمنياً لصالح إسرائيل بنزع سلاح المنظمات الفلسطينية، وترحيل قادتها، والتعامل مع أعضائها العسكريين وغير العسكريين بما ترغبه تل أبيب، وهو الأمر الذي لم يستطع جيش الاحتلال تحقيقه خلال 15 شهراً من القتال واستخدام أكثر القنابل أميركية الصنع فتكاً بالإنسان الفلسطيني، وتدميراً شاملاً للبنية التحتية للقطاع.

ومن المهم هنا ملاحظة أن طرح هذه الأفكار التي تستهدف نزع أي مسؤولية لإسرائيل عن الدمار الذي جلبته إلى القطاع وجرائم الحرب المؤكدة، وتحميل المسؤولية لآخرين للتخلص من هذا الدمار من دون أن تتحمل تل أبيب أي تكلفة، هو مجرد شق من عملية ضغط متتالٍ على القاهرة ورؤيتها برفض تهجير الفلسطينيين، وإصرارها على إعمار القطاع بوجود أهله ومشاركتهم المباشرة في تلك العملية المعقدة. ففي الإعلام الإسرائيلي ومداخلات عسكريين سابقين، وتصريحات للمتحدث الرسمي لجيش الاحتلال، تركيز على ما يصفونه بانتهاكات مصر لاتفاق السلام، تحديداً تطوير وتحديث قواتها المسلحة، ووجود معدات عسكرية ومطارات في مناطق مختلفة من سيناء، والنظر إلى الأمر باعتباره تهديداً غير مباشر لأمن إسرائيل، إن لم يكن في الوقت الراهن، كما يقولون، فقد يحدث في المستقبل، مع مطالبة الولايات المتحدة للتدخل في هذا الأمر، لدفع القاهرة لتخفيف وجودها العسكري في سيناء. ولا ننسى هنا التهديد المباشر باستهداف السد العالي، أيقونة مصر التنموية، عبر نشر مقطع مصور بالذكاء الاصطناعي، يتضمن حجم الدمار الذي يلحق بمصر من جنوبها إلى شمالها إذا تم تدمير السد العالي، ومعه تدمير كل البنية التحتية، وإغراق مصر في ظلام دامس، واختفاء مؤسساتها ورموزها السياسية والثقافية.الضغط الدعائي الإسرائيلي على مصر يأتي في وقت ترتبك فيه العلاقة مع الولايات المتحدة ورئيسها ترمب بسبب رفض القاهرة خطته للتهجير الفلسطيني وإعمار غزة تحت مسؤولية أميركية مباشرة وتحويله، كما يزعم الرئيس ترمب، لريفيرا تملكها الولايات بعيداً عن أصحابها الأصليين. وهو ما تدركه القاهرة باعتباره محاولة إسرائيلية حثيثة للتأثير على القرار المصري بشأن مستقبل غزة والقضية الفلسطينية ككل، ودفعها لتقديم كل التنازلات التي تتراكم في عقل الرئيس ترمب، وتحلم إسرائيل بتحقيقها من دون أن تدفع أي ثمن، أو تلتزم ولو بتنازل واحد تجاه الحقوق الفلسطينية. عنصر الزمن هنا يربط مباشرة بين تلك الضغوط الإسرائيلية الدعائية بالدرجة الأولى، والمتدرجة في مراحلها، التي تعكس أسلوب إسرائيل الأشهر في عدم الالتزام بالمعاهدات، والمناورات السياسية المكشوفة، والمطالب التعجيزية التي لا يقرها عقل رشيد، وبين عملية التملص الجارية من استحقاقات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، والتمهيد للعودة إلى القتال المكثف في القطاع لاستكمال تدمير ما بقي منه، والمقدر في حدود 20 في المائة فقط من حجم مقدراته الكلية.

القاهرة بدورها تتعامل مع هذه المواقف، سواء الرسمية أو الإعلامية، في إسرائيل وأميركا بحذر شديد، مع عدم التخلي عن رفضها الجازم لأي حديث عن التهجير الفلسطيني، أو تحمل أعباء قذرة لصالح إسرائيل، وبما يتنافى مع محدداتها الأمنية والإنسانية والأخلاقية، التي تحدد إطاراً صلباً للتعامل مع القضية الفلسطينية إجمالاً وتفصيلاً. وفي الوقت ذاته تتمسك القاهرة بقوة بضرورة التزام إسرائيل وحركة «حماس» بما اتفق عليه في اتفاق وقف إطلاق النار، لا سيما بنود المرحلة الثانية، التي تُلزم الطرفين بتبادل الأسرى، وأن تنسحب إسرائيل من محور فيلادلفيا أولاً وكامل القطاع ثانياً، وتقديم المزيد من المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، وبما يمهد لوقف إطلاق نار دائم، يسمح لاحقاً ببدء مفاوضات جادة بين الإسرائيليين والفلسطينيين لتطبيق حل الدولتين.

والمؤكد أن القاهرة تراقب بتركيز شديد إمدادات واشنطن العسكرية الأخيرة لإسرائيل، التي أقرها ترمب استثنائياً، بعيداً عن الخطوات المُعتادة التي تمر عبر لجان الكونغرس، لا سيما شحنات آلاف القنابل زنة طن ونصف طن، التي تدمر مساحات واسعة وتخترق الحصون وتقتل المزيد من البشر.

والتساؤل الذي يرد على ذهن الكثيرين في مصر، ما هو الهدف من كل تلك الشحنات المُدمرة، وهل يتوقف استخدامها على القطاع كما تتراكم المؤشرات من داخل تل أبيب، أم هي لتخويف الجيران، أم ستوجه لتفجير المنطقة ككل باستهداف إيران ومنشآتها النووية. وأياً كانت الإجابة، فالاستعداد لكل السيناريوهات شعار مصري غير قابل للخفاء.