في الأعوام القليلة الماضية، مع تصاعد تحديات العمل إثر انتشار وباء كورونا وظهور "الاحتراق الوظيفي" كمشكلة راهنة ترهق ملايين العمال والموظفين حول العالم، توجهت عديد من الدول لتطبيق نظام أسبوع عمل من أربعة أيام فقط، مانحةً الموظف في المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة عطلة أسبوعية مدتها ثلاثة أيام كاملة.
وعلى رغم أن فرنسا ليست واحدة من البلدان التي شرعت بتطبيق هذا النظام، إلا أنها لا تتأخر أبداً عن معاقبة من يعمل أكثر من الساعات الأسبوعية المسموح بها في القانون الفرنسي، حتى وإن كان العمل يتم عبر عقود نظامية ويُصرح بعائداته للضرائب دورياً.
قصة طريفة
لكن على ما يبدو، فإن كثيرين لا يتفهمون وجهة نظر فرنسا الصارمة هنا، بل وأحياناً يجدونها غريبة وغير منطقية، الأمر الذي دفع وسائل الإعلام الفرنسية إلى استحضار القضية مستعينةً بأمثلة طريفة حصلت مع أشخاص يعملون على الأراضي الفرنسية لتسليط الضوء على هذه النقطة المثيرة للجدل في قانون البلاد.
ولعل أكثر القصص طرافةً التي لاقت صدىً إعلامياً واسعاً، هي قصة لاجئ سوري كان قد وصل إلى مدينة Bourges الواقعة وسط فرنسا في عام 2014، إذ إنه بعد مضي خمس سنوات على لجوئه بدأ بإجراءات الحصول على الجنسية، ليتفاجأ في مارس العام الماضي إبلاغه من قبل سلطات المحافظة برفض طلبه كونه تجاوز الحد الأقصى لساعات العمل.
صحيفة "لوفيغارو" تناولت القصة في مقال نشرته بتاريخ 16 يونيو (حزيران) 2021، تحت عنوان، "تم رفض منحه الجنسية الفرنسية لأنه يعمل كثيراً"، وفي التفاصيل تذكر أن اللاجئ البالغ من العمر 35 سنة كان ينتظر بكل ثقة الموافقة على تجنيسه لأنه يستوفي جميع الشروط التي يأتي في مقدمتها اندماجه بالمجتمع وتعلمه اللغة الفرنسية إضافة إلى العمل والتصريح للضرائب.
وعند سؤاله عن سبب الرفض قيل له، "أنت لا تحترم قانون العمل"، باعتباره كان يعمل أكثر من 44 ساعة في الأسبوع خلال 12 أسبوعاً متتالياً، وهو ما يعد مخالفاً للقانون الفرنسي الذي ينص على ألا يتجاوز العامل أو الموظف هذه المدة إلا ضمن حالات استثنائية جداً لم تنطبق على وضع الشاب.
العمل لساعات أكثر ليس أمراً إيجابياً
القصة نفسها، تناولها موقع "فرانس بلو" لكن هذه المرة تحت عنوان، "تم رفض منحه الجنسية الفرنسية لأنه شجاع جداً"، مستعرضاً وجهة نظر الشاب الذي أكد أنه عمل كثيراً من أجل إعالة عائلته، ولئلا يحتاج إلى الحصول على مساعدات مالية من الحكومة، ظناً منه بأنه يقوم بأمر إيجابي يثبت من خلاله قدرته على العيش في فرنسا والاندماج في مجتمعها.
وقال، "أريد أن أكون قادراً على التصويت في فرنسا حيث أدفع الضرائب، فرنسا هي بلد الحرية والمساواة، لهذا اخترت المجيء إليها، وأريدها أن تحترم حقوقي".
أيضاً، استعرض الموقع وجهة نظر محاميته ليلي دوفون التي قدمت وقتها استئنافاً لدى وزارة الداخلية ضد قرار رفض منح موكلها الجنسية، واصفةً إياه بالقرار "المروع"، واعتمدت في استئنافها على المادة 34 من اتفاقية جينيف في شأن اللاجئين المتضمنة أنه "على الدول المتعاقدة، بالتالي فرنسا، أن تفعل كل ما بوسعها لتسهيل تجنيس اللاجئين".
من جهة أخرى، صرحت دوفون، "نعم، لقد ضاعف موكلي ساعات عمله، لكنه كان يعمل في وظائف صغيرة مثل قطف التفاح والحصاد والصيانة، لدعم أسرته بشكل لائق، ومن خلال كشوف حساباته نرى أنه أراد إثبات اندماجه في فرنسا ولم يرغب بالاستفادة من نظامنا الاجتماعي".
كذلك عرضت " Le Berry Republicain" القضية ذاتها في يونيو 2021، مسلطةً الضوء على أن اللاجئ الشاب جمع بين عديد من الوظائف ليسهل اعتماده على نفسه وكي لا يحتاج المساعدات الاجتماعية من الدولة.
ونقلت عن محاميته قولها، "لقد استطاع أن يحقق جميع شروط الحصول على الجنسية الفرنسية، تعلم التحدث باللغة الفرنسية، وعمل دائماً قي الوظائف النظامية، وصرح عن عمله ودفع الضرائب والرسوم الاجتماعية".
تجربة اللاجئ السوري ليست الوحيدة في هذا الخصوص، فكما ورد في مقال "لوفيغارو"، رفضت فرنسا أيضاً في عام 2019 منح جنسيتها لممرضة تبلغ من العمر 45 سنة، وهي أم لثلاثة أطفال، لأنها اشتغلت في ثلاث وظائف وعملت في المتوسط ما يقرب 271 ساعة في الشهر بما يعادل 59 ساعة في الأسبوع، متجاوزةً بذلك الحد الأقصى المسموح به قانونياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا يحظر القانون الفرنسي العمل أكثر من اللازم؟
تحدد فرنسا وقت عمل قانوني يبلغ 35 ساعة أسبوعياً للموظف بدوام كامل، وتمنح الراغبين بمضاعفة مدخولهم أو أولئك الذين تقتضي ظروف عملهم التواجد لوقت أكثر، فرصة العمل لمدة لا تتجاوز 48 ساعة في الأسبوع الواحد، وألا يتجاوز المتوسط لاثني عشر أسبوعاً متتالياً 44 ساعة، لكنها في المقابل لا تتهاون أبداً مع الموظف أو العامل الذي يتجاوز المدة المنصوص عليها.
مع العلم أنه من الضروري الإشارة إلى أن وقت العمل الفعلي هو الوقت الذي يكون فيه الموظف تحت تصرف صاحب العمل ويقوم بعمله وفقاً لتعليمات المؤسسة أو الجهة الموظفة له، من دون أن يكون قادراً على ممارسة أعماله الشخصية بحرية، لذا فإن أوقات الراحة لا تحتسب في عدد ساعات العمل.
وبالعودة قليلاً إلى العقود الماضية، نرصد كيف انخفض وقت العمل السنوي للعاملين في فرنسا بنسبة 17 في المئة في المتوسط، من 1957 في عام 1975 إلى 1609 ساعة في 2018، أي بما يعادل حوالى ساعة أقل في اليوم، بحسب ما كشفته دراسة أجراها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE).
وإن القانون الفرنسي يهدف من خلال تقليص وتنظيم أوقات العمل إلى خلق بيئة صحية تراعي السلامة النفسية والحياة الاجتماعية للموظفين والعمال، وتضمن في الوقت نفسه إنتاجية عالية في جميع القطاعات، وقد توفر فرص عمل لآخرين، فمن الطبيعي أن أي خلل نفسي أو اجتماعي قد ينتج لدى العامل بسبب ظروف عمله الصعبة والمرهقة من حيث الوقت والظروف سينعكس بالضرورة سلباً على مسار الإنتاج في المؤسسة أو الشركة أولاً، وعلى علاقاته الأسرية والاجتماعية ثانياً، الأمر الذي سيحدث اضطراباً يؤدي تراكمه مع الأيام إلى خلل كبير في بنية المجتمع الفرنسي.
واليوم، وإذ لا تزال فرنسا تعد واحدة من أكثر الاقتصادات إنتاجية في العالم، نجد أن دراسة قام بها مكتب الإحصاء الأوروبي واستعرضتها صحيفة "لوموند" في يونيو 2016، قد أشارت إلى أن الفرنسيين لمدة 10 سنوات بين عامي 2005 و2015، كانوا يحظون بأقل ساعات عمل بين نظرائهم في بقية دول الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك فإنهم كانوا في عام 2014 من أكثر الدول الأوربية إنتاجاً.