أيُّ بنية معرفية وراء مشهد الأحداث؟

منذ 7 أشهر 86

لندرك على نحو أعمق ماهية الوقائع الجسام العاصفة بنا والمقرِّرة مصير مجتمعاتنا وأوطاننا في هذه المرحلة الشديدة الاضطراب، لا بد من طرح السؤال الكبير: ما محرِّك التاريخ الذي يقرّر الآن حاضرنا ومستقبلنا؟ وسواء كان المحرّك هو العناية الإلهية (وفقاً للرؤية الدينية التي حكمت ألف عام من القرون الوسطى الأوروبية، وما زالت تسود الكثير من المجتمعات المعاصرة)، أو الأفكار (وفقاً للنظرة الفلسفية المثالية)، أو طبيعة الاقتصاد ونمط الإنتاج (وفقاً لنظرية المادية التاريخية الماركسية)، أو التوق إلى الحرية والمساواة (بعد سقوط «النظام القديم» في أوروبا على يد الثورة الفرنسية الكبرى)، أو أيضاً القوة المباشرة والعنف والاغتيال (وفقاً للنظرة البوليسية للتاريخ)، فلا بدّ أن تتجسد هذه العوامل في بنية معرفية وقيمية تتسرّب إلى العقول والنفوس وتقرر الأفعال. أيُّ بنية معرفية هي؟

يسود الاعتقاد أن التقدّم العلمي المتسارع، والاكتشافات الكبرى، وتكريس ديمقراطية التعليم، والتطور في وسائل التواصل، قد دمجت الإنسان المعاصر في عالم معرفي شاسع، بالغ الغنى والتنوّع، حيث تصل إليه المعطيات الإعلامية والتحليلية، في كل لحظة، من مختلف أنحاء الكرة الأرضية، وهو أمرّ مذهل لم يتوافر للكائن البشري في أي وقت من تاريخه الطويل على وجه الأرض.

لا شك في ذلك. لكن يبقى السؤال الكبير الآخر: إلى أي مدى يستطيع الإنسان الحديث والمعاصر، في ضوء المعرفة الشاسعة المتوافرة له، أن يكون له رأيه الخاص المتمايز عن رأي «القطيع» السائد على أوسع نطاق في مجتمعه؟ إلى أي حدّ يستطيع إلقاء نظرة نقدية تقييمية إلى الآيديولوجيا المهيمنة حوله؟ هذا هو المعيار الحقيقي لنوعية البنية المعرفية داخل النفوس.

يقود ذلك إلى المقارنة بين البنية المعرفية «للإنسان القديم»، ما قبل الثورة العلمية الحديثة، والبنية المعرفية «للإنسان الجديد»، وما بعدها، خصوصاً في قدرة كل منهما على تكوين الرأي الشخصي الخاص به، مما يتيح إدراك مدى التطور الذي حصل. لن نذهب في تحديد «الإنسان القديم» إلى أبعد العصور، بل إلى أقربها، لنتوقف قليلاً عند الإنسان الأوروبي مطلع القرن الثامن عشر. كان ذلك «الإنسان القديم» ربما الأكثر تطوراً في عصره، بعد انقضاء نحو قرنين على النهضة الأوروبية التي طوت صفحة القرون الوسطى وفتحت باب الأزمنة الحديثة. لكنّ النهضة ظلت مقتصرة في حينه على بعض النخب العلمية والفكرية ولم تَطُلْ مفاعيلها المجتمع الكلّي.

كان الإنسان الأوروبي مطلع القرن الثامن عشر، في الغالبية العظمى من الحالات، يعمل هو وعائلته في الزراعة، في أرض واحدة لا يغادرها، ضمن النظام الإقطاعي السائد. كان يجهل القراءة والكتابة، المقتصرتين على النبلاء وصفوة رجال الدين. لم يكن يعرف ببعض ما يحدث في الأنحاء حوله إلا بعد وقت طويل، فكيف بالأقطار البعيدة؟ وهو، في أي حال، لم يكن لديه إلا مصدر معرفة واحد: عظة الكاهن في الكنيسة. فأيُّ قدرة ستتوافر له لتكوين نظرته الشخصية ورأيه الخاص، المتمايزين عن الآيديولوجيا السائدة في عالمه؟

بين إنسان مطلع القرن الثامن عشر و«الإنسان الجديد»، إنسان القرنين العشرين والحادي والعشرين، الذي هو نحن، بونٌ معرفي شاسع، لم يكن ممكناً لولا التحولات الكبرى طوال القرن الثامن عشر الأوروبي وما بعده: فكر التنوير، والرؤية التطورية لعلوم الحياة والتاريخ، والثورة الصناعية والتكنولوجية، وظهور العلم الحديث وتطبيقاته، والثورة الفردية، وصولاً إلى ثورة 1789 الفرنسية الكبرى التي أسقطت «النظام القديم» برمّته. وقد حدث في القرنين العشرين والحادي والعشرين تقدم علمي باهر، وانتشار كثيف لديمقراطية التعليم طال كل المجتمعات وكل الفئات، وبرزت اكتشافات مذهلة في المجالات كافة، يضيق المكان بذكرها، لعلَّ آخرها الثورة المعلوماتية الرقمية والثورة الجينية، بحيث بتنا أبناء «القرية الكونية».

لكن يعود السؤال: هذا «الإنسان الجديد» المقيم في بحر المعارف، إلى أيِّ حدٍّ يستطيع تكوين نظرته الشخصية ورأيه الخاص، في منأى عن الآيديولوجيا المهيمنة عليه وحوله؟

لا شك في أنه يستطيع ذلك أكثر بكثير من «الإنسان القديم». لكن إلى أيِّ مدى، وبأيِّ نسبة؟

حين نستعرض الحروب والنزاعات الكبرى إلى مدى القرنين العشرين والحادي والعشرين، من الحرب الكونية الأولى إلى حرب أوكرانيا وحرب غزة والشرق الأوسط اليوم، يطالعنا استنتاجان أساسيان: الأول، أن الذين يستطيعون تكوين رأيهم الخاص هم قلة محدودة لا تؤثر كثيراً في مسار الآيديولوجيا المهيمنة في الحاضر ولا تحدّ من سطوتها. والآخر، أن الواقع الآيديولوجي، مهما بلغت هيمنته وسطوته، هو في الحقيقة أكثر ضعفاً وهشاشة مما يبدو عليه. وهما استنتاجان مأساويان إلى حد بعيد.

صحيح أن التقدّم العلمي لم يصل إلى إنهاء الحروب، كما كان يأمل تطوريو القرن التاسع عشر، بل جعلها أكثر ضراوة ووحشية. لكنّ التقدّم المعرفي والثقافي، هو أيضاً، حمل معه خيبات هائلة. يستغرب المرء كيف أن أمةً بالغة التطور مثل الأمة الألمانية، التأمت منذ عام 1933 حول رجل واحد، يحمل دعوة قومية متطرفة، قائمة على عقيدة التفوّق العِرقيّ والعنف المفرط، من أجل السيطرة على أوروبا والعالم. وكيف قاد ذلك إلى الحرب الكونية الثانية والستين مليون قتيل والدمار الذي لا يوصف... ثم ما إن حطّت الحرب أوزارها، حتى تبخّرت الآيديولوجيا النازية كأنها لم تكن. وباتت موضع إدانة العالم أجمع، وفي طليعته الأمة الألمانية نفسها. والمتاهة العبثية نفسها دخلتها الأمة اليابانية، في دعوة قومية متطرفة للسيطرة بالقوة الحربية على محيطها الآسيوي، بدأت ببيرل هاربر، وانتهت بهيروشيما وناغازاكي، حيث تخطت أميركا في عنفها المضاد، كلَّ محظور. ثم اندثرت الآيديولوجيا القومية اليابانية تماماً، وبات الشعب الياباني طليعة رافضيها. ولم تسلم الآيديولوجيا الماركسية من المصير نفسه، بعد عشرات ملايين القتلى والمقتلَعين من أراضيهم في الاتحاد السوفياتي والصين على يد ستالين وماو تسي تونغ، وهيمنة الفكر الماركسي «العلمي» طوال عقود على الحركات الثورية وعلى معظم مثقفي العالم، إذ بالهيكل الشيوعي ينهار فجأة من داخله، وأضحت الماركسية فجأة أثراً بعد عين في كل مكان...

إنها بضعة أمثلة لا أكثر، إذ يضيق المكان بالمزيد، وهو كثير. وصولاً إلى واقعنا الراهن، حيث تسير الأمة الروسية في ركاب الفكر القومي المتشدد في حربها على كييف، مصدّقة مقولة «أوكرانيا النازية» التي تشكل تهديداً مصيرياً لها. ويلتئم ملايين الصهاينة في حربهم الضروس على غزة والضفة الغربية، نافين وجود الشعب الفلسطيني، كأنهم لم يستوطنوا أرضه يوماً ويهجّروه منها. ويستيقظ «داعش» هنا وهناك من جديد، رافعاً راية العنف الأقصى وصولاً إلى دولة الخلافة... كم سيدوم كل ذلك، وإلى أين، في ضوء الواقع دائم التحوّل، الأكثر ضعفاً وهشاشة بكثير مما يبدو عليه؟