أين ستكون الضربة التالية لبكين؟

منذ 1 سنة 180

بات واضحاً أن ثمّة عناصر مستحدثة لتكوين جديد للسياسة الخارجيّة الصينيّة التي تنطلق من واقع قوامه نمو اقتصادي غير مسبوق يتيح تدريجيّاً بسط النفوذ السياسي حول بقع جغرافيّة مختلفة حول العالم. وتبدو المقاربة الصينيّة معاكسة تماماً للسياسة الأميركيّة التي ارتكزت في بسط نفوذها على القوّة العسكريّة بالدرجة الأولى والاستفادة من حالة الإنهاك والتراجع الأوروبي بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية.

وبات واضحاً أيضاً أن سياسة الدبلوماسيّة الناعمة، إذا صح التعبير، التي كانت تنتهجها الصين حيال عدد من القضايا الملتهبة حول العالم، وفيها شيء من الانكفاء إلى الخلف، لم تعد سارية، وها هي بكين تقارع واشنطن في مناطق نفوذها المباشرة وفي مقدمها الشرق الأوسط.

بمعزل عن مآلات التفاهم السعودي - الإيراني الذي لا تزال نتائجه السياسيّة المباشرة تقتصر على إعادة التمثيل الدبلوماسي بين البلدين بعد قطيعة لسنوات طويلة، وفتح السفارات والقنصليّات وتبادل الزيارات، وهي إنجازات مهمة قياساً إلى حقبة التوتر السياسي السابق إلا أن المأمول هو المزيد من الخطوات العمليّة في بؤر الصراع مثل اليمن والعراق وسواهما.

بمعزل عمّا تحقق في هذا المسار، إلا أن الاختراق الصيني كان مهماً، خصوصاً أنه حصل في منطقة محسوبة تقليديّاً على النفوذ الأميركي الذي يشهد تراجعاً ملحوظاً وشيئاً من الإرباك لا سيّما في الملفات الملتهبة كالملف النووي الإيراني أو الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي يشهد منعطفات غير مسبوقة وينذر بانفجار كبير على ضوء السياسات اليمينيّة المتطرفة التي تواصل التوسع الاستيطاني والاستفزاز والقصف والقتل المتعمّد، وقد دفنت بسلوكياتها العدوانيّة ما يُسمّى حل الدولتين.

وإذا كانت الإدارة الأميركيّة الحاليّة التي ورثت «اتفاقيّات أبراهام» من ولاية الرئيس السابق دونالد ترمب لم تتراجع عنها ولم تدفعها قدماً، إلا أن غيابها شبه التام عن مجريات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، باستثناء البيانات الإعلاميّة التقليديّة التي لا تدين التصرفات الإسرائيليّة وتصر على وضعها في إطار «الدفاع عن النفس»، يفسح المجال أمام دخول لاعب جديد هو الصين.

الرئيس الصيني أبلغ نظيره الفلسطيني استعداده للتدخل في حل الصراع التاريخي الذي يمر بمرحلة صعبة ودقيقة، وذلك بعد أن وقع مذكرة تفاهم استراتيجي مع السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. ومعروف أن الصين تعتمد سياسات الشراكات الاستراتيجيّة التي ترى بكين أنها أكثر مرونة في ما يتعلق بالمصالح المباشرة مع مختلف الدول من فكرة التحالفات التقليديّة التي قد تسبب حرجاً لها في منعطفات معيّنة بما لا يتناسب مع سياساتها ومصالحها.

وتقيم الصين ثلاثة أنواع من الشراكات الاستراتيجيّة في منطقة الشرق الأوسط: الشراكة الاستراتيجيّة الشاملة (مصر، المملكة العربيّة السعوديّة، إيران، الإمارات العربيّة المتحدة)، الشراكة الاستراتيجيّة (تركيا، الأردن، قطر، العراق، عُمان، الكويت) والشراكة الإبداعيّة الشاملة (إسرائيل).

الشراكة الاستراتيجيّة بين الصين والسلطة الفلسطينيّة تهدف إلى تعزيز الحضور الصيني في المنطقة، ومن الممكن أن تترجم نفسها بتقديم دعم اقتصادي وتقني لفلسطين لتقوية اقتصادها المتهاوي نتيجة الكثير من العوامل الخارجيّة والداخليّة. وبدأت هذه الاتفاقيّة بمبلغ متواضع قياساً إلى التجارة الصينيّة مع آخرين ووصلت إلى نحو 158 مليون دولار، مقارنة مع 17.62 مليار دولار مع إسرائيل التي يشمل التعاون معها القطاعين التكنولوجي والتجاري.

وإذا كانت تل أبيب تفاخر بأنها الشريك الاستراتيجي التاريخي لواشنطن، إلا أنها لا تتردد في ملاحقة مصالحها المباشرة حتى ولو مع غريم الولايات المتحدة أي الصين، إذ تُخاض بين البلدين حروب تجارية واقتصادية ساخنة جداً. وبينما لا تتوانى إسرائيل عن إغضاب واشنطن إذا اقتضت مصلحتها ذلك، قلما ترى موقفاً أميركياً يعادي إسرائيل رغم كل سياساتها العنصريّة والمتطرفة الرافضة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.

من الواضح أن واشنطن لن تتمكن من استعادة مكانتها الكاملة في الشرق الأوسط من دون أن تتخذ لنفسها مساحة من إسرائيل على قاعدة تحديد المصلحة الأميركيّة العليا والسعي لتحقيقها بمعزل عن المصلحة الإسرائيليّة المباشرة، وليس ضرورياً أن تتقاطعا طبعاً. أما مدى إمكانيّة تحقق ذلك، فسؤال تصعب إجابته على ضوء النفوذ الكبير الذي تتمتع به المجموعات الصهيونيّة في واشنطن.

التقدّم الصيني مقابل التراجع الأميركي ستكون له تداعيات جمّة على الواقع الدولي قد لا تظهر تباشيرها فوراً، إنما التغيير في موازين القوى آتٍ من دون ريبة. فأين ستكون الضربة التالية لبكين؟