بينما تسير في شوارع فيلينوس، تلك المدينة القديمة المصطفة بالمباني الساحرة التي تعود للقرن الـ14 عندما أسسها الدوق الأكبر غيديميناس، الذي يطلق اسمه على الشارع الرئيس وسط المدينة، تجد نفسك داخل حي فني لكنه ليس مجرد حي، بل جمهورية مستقلة مفتوحة الحدود للجميع وتتمتع بحكومة ودستور خاص.
ففي قلب العاصمة الليتوانية التي احتضنت قبل شهر قمة تاريخية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، تقع ما يطلق عليه "جمهورية أوزوبيس"، وهي أحد أقدم أحياء فيلنيوس الذي يحج إليه السائحون من أنحاء أوروبا خلال العطلات الأسبوعية والسنوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعني كلمة أوزوبيس "ما وراء النهر"، إذ يفصلها نهر فيلنيا عن البلدة القديمة، فبمجرد عبور الجسر تكون وصلت إلى إحدى مداخل الجمهورية المعروفة بسكانها من الفنانين بينما تقل مساحتها الكلية عن كيلو متر مربع واحد.
قد تبدو "أوزوبيس" جمهورية وهمية وتثير قصتها المزاح بين الزائرين، لكنها تتمتع بالفعل بحكومة من رئيس ورئيس وزراء ولها أعياد مستقلة كما كان لديها جيش يتكون من 10 رجال تم تقاعدهم بالنظر إلى مبادئ السلام التي تأسست عليها الجمهورية.
قصة أوزوبيس
بدأت "أوزوبيس" كمزحة يوم كذبة أبريل (نيسان) بين الشاعر والموسيقي الليتواني روماس ليليكيس الذي أصبح في ما بعد رئيس الجمهورية، وتوماس شبايتيس الذي أصبح رئيساً للوزراء عام 1998، لكن الأمر الأكثر إدهاشاً هو ذلك الدستور المعلق على ألواح معدنية عاكسة بـ43 لغة مختلفة بينها العربية في شارع بوبيو أو ما يعرف بشارع الدساتير، وهو أحد الشوارع الرئيسة في الحي، الذي يؤدي إلى وسط الجمهورية، إذ نصب تمثال رئيس الملائكة جبرائيل المعروف بـ"ملاك أوزوبيس" عام 2002 كرمز للبعث والنمو، ويحمل الملاك بوقاً يبشر بعصر جديد للتفكير الحر للأمة.
وفي حين أن حي "أوزوبيس" يعود للقرن الـ15، لكن قصته الفنية بدأت بعد استقلال ليتوانيا عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، عندما توافد المجتمع الفني إلى أوزوبيس بحثاً عن إيجار رخيص ومسكن قريب من أكاديمية الفنون الوطنية حيث يقطن الحي حالياً نحو 1000 فنان من إجمالي عدد سكانها البالغ 7 آلاف نسمة، مما يجعله واحداً من أكثر المناطق جمعاً للفنانين في العالم، ليتحول الحي إلى أول حاضنة فنية رسمية فريدة من نوعها في دول البلطيق، ويعلن أولئك الفنانون جمهوريتهم الخاصة "أوزوبيس" عام 1997. ووفق شبايتيس فإن الجمهورية ولدت من فلسفة أرسطو القائلة إن أية مدينة كبيرة يجب أن يكون لها عدد محدود من السكان يتمتعون بالسلام معاً.
دستور أوزوبيس
تعكس مواد الدستور الذي ألفه ليليكيس وشبايتيس العمق الفني لمؤسسي تلك الجمهورية الصغيرة مفتوحة الحدود على محيطها الأوسع، فمواد الدستور الـ41 تعكس روحاً فنية تدعم الحرية والحب والتسامح ليس فقط مع الآخرين ولكن أيضاً مع النفس، فالمادة رقم أربعة تنص على أن "لكل إنسان الحق في أن يرتكب الأخطاء"، وتقول المادة رقم 20 إنه "ليس لأي إنسان الحق في أن يكون عنيفاً". وتتسم مواد أخرى بروح الدعابة، فبينما "لكل فرد الحق في الفهم" تليها مباشرة عبارة "لكل فرد الحق في عدم الفهم"، كما أن "من حق الكلب أن يكون كلباً"، و"لكل إنسان الحق في أن يحب القطط ويعتني بها"، وهو ما فسره السكان المحليون بحب المؤسسين للحيوانات الأليفة وحرصهم عليها.
لا يضع دستور أوزوبيس حداً للحرية طالما أنها تدور حول الفرد من دون إزاء الآخرين، حتى إن "لكل إنسان الحق في أن يكون كسولاً". وتدعم هذه الأفكار أيضاً بصورة لعلم جمهورية أوزوبيس أعلى يمين الدستور الذي يحمل "الكف المقدسة"، وهو شعار لكف أزرق به ثقب دائري. ويوضح الصحافي الليتواني ميندوغاس جاكيفيسيوس لـ"اندبندنت عربية" أن "الكف يرمز إلى الانفتاح والتسامح، والثقب إلى أن المرء يمكنه العيش والحب والعمل في أوزوبيس من دون أن يقبل رشاوى".
إغواء حورية البحر
الدستور ليس وحده المعلم المثير للدهشة في تلك الجمهورية، فعلى غرار غيرهم من الشعوب فإن لسكان أوزوبيس بعض الأساطير والمعتقدات التي تدور حول مدينهم. فثمة تمثال لحورية البحر يقبع على أحد ضفاف نهر فيلنيا حيث يمكنك رؤيته بينما تعبر الجسر إلى أوزوبيس، ولكن احذر فالأسطورة تقول إنك إذا نظرت في عيون تلك الحورية فلن ترغب في مغادرة تلك الجمهورية الصغيرة إذ إنها تغري الزائرين.
تبدو الأسطورة حديثة كثيراً، فذلك التمثال البرونزي أنشئ من النحات المعروف روماس فيليوسكاس عام 2002، ليرحب بالزوار.
وعلى رغم عدم اعتراف الحكومات الأجنبية بـ"أوزوبيس" كدولة رسمية، أصبحت الأمة الصغيرة مصدر فخر في فيلنيوس وفي جميع أنحاء ليتوانيا. تحتفل باستقلالها سنوياً في الأول أبريل (نيسان) المعروف محلياً باسم "يوم أوزوبيس". ففي ذلك اليوم يمكن للمسافرين ختم جوازات سفرهم أثناء عبورهم الجسر إلى الجمهورية وهو أمر استثنائي، وكذا استخدام العملة المحلية غير الرسمية، والحصول على البيرة التي تتدفق من صنبور المياه في الميدان الرئيس.
تكتظ الجمهورية الصغيرة بالمقاهي والحانات، حيث يتجمع الناس في الصيف على ضفاف النهر ويعزفون الموسيقى بأنواعها المختلفة. وفق جاكيفيسيوس فإن مؤسسي الجمهورية الصغيرة أرادوا تأسيس مكان ينفصل فيه الناس عن الحياة الحديثة ومشكلاتها ليتمكنوا من الاسترخاء والاستمتاع بالفن، حتى إن المقاهي داخل "أوزوبيس" لا يتوفر بها إنترنت.
قدس الشمال
كانت أوزوبيس سبباً في تسمية فيلنيوس باسم "أورشليم الشمال أو قدس الشمال"، إذ كان يسكنها على مر التاريخ أغلبية من السكان اليهود الذين لجأوا إليها نتيجة الاضطهاد في أنحاء أخرى من أوروبا، وانتشر تأثير فيلنيوس في جميع أنحاء أوروبا الغربية والشرقية عندما أنشئت جامعة عام 1579، وأصبحت المدينة مركزاً ثقافياً رئيساً ليهود أوروبا الشرقية. وشهدت أوزوبيس أحد المذابح التي ارتكبها النازيون والمتعاونون معهم من الليتوانيين ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، حتى إن شارعها الرئيس كان يطلق عليه "شارع الموت". وخلال منتصف القرن الـ20 عندما كان البلد يقع تحت الحكم السوفياتي كانت تلك المنطقة مهجورة وتمثل جزءاً خطراً لا يطأه سوى المجرمون.
يشبه التسكع في فيلنيوس السير داخل متحف مفتوح، فالمدينة مكتظة بالآثار وتضم ثلاث قلاع تقع في قلب المدينة التاريخية، وتتوزع من مركز المدينة شوارع العصور الوسطى الضيقة المرصوفة بالحصى. والكنائس التاريخية واحدة من المعالم التي تتسم بها تلك المدينة الصغيرة، فهي أول شيء تقع عليه عينيك، فهناك 20 كنيسة كاثوليكية وأربع كنائس أرثوذكسية وكنيسة لوثرية ووواحدة إنجيلية والكنيسة الكاثوليكية الشرقية وعديد من المعابد والأديرة، جنباً إلى جنب مع القصور حيث تمتزج فنون عصر النهضة مع القوطية والكلاسيكية وحتى الحداثة في مشهد منسجم وبديع.