من أجمل وأعمق ما روى جرجي زيدان، مؤسس «الهلال» ومؤرخ الِسيَّر العربية، أنه أيام كان فتى يعمل في مطعم والده ببيروت، ترافق مع شلة من الشبان «القبضايات» الذين كانوا يتباهون بقوة سواعدهم واستخدام الكلمات البذيئة وحمل السكاكين، ورواية أخبار الشجار ومعارك الأيدي. وكان أكثرهم يتعاطى المسكر وجلهم بطّال بلا عمل. وفي أيام الأعياد والعطلات كانوا يخرجون جماعة من حوالي 20 فرداً يطلبون اللهو في بساتين المدينة وهضابها، وكانت يومها لا تزال براً خلاباً وحقول زيتون ومزارع.
في إحدى تلك النزهات العامة تعرّف صاحبنا على وافد جديد على الجماعة يدعى خليل. بدل أن يتحدث خليل عن براعته في الطعن على السكاكين، راح يقرأ على الفتى جرجي أشعاراً من المتنبي و(ابن) الفارض.
أعجب زيدان بالشعر من دون أن يفهم الكثير منه. وفي النزهة التالية طلب من خليل أن يشرح له معاني ما يلقي عليه. وفيما بعد، انفصل الصديقان عن رفقة الفتوّة وبطولة السكاكين والخناجر، وقرر جرجي زيدان أنه سوف يسلك الطريق إلى عالم المتنبي. وهكذا، بدأ رحلته في طلب العلم. فترك خلفه خلَّان الخناجر وزعران الأزقة وسافر إلى مصر لكي يتحول فيما بعد إلى واحد من كبار الناشرين والمؤرخين العرب.
عثرت في محض المصادفة على «عشراء صباي»، وهي من أعذب ما روى الروائي العزيز من حكاياته، وقد لحقت في صغري شيئاً من بيروت الحقول والبساتين، وأنقذني ربي من رفقة السكاكين. كانت المفاخرة بالفتوة آنذاك قد تحوّلت إلى التباهي بالبوهيمية، وفرقة الشعر النيّر، وبقي الخمول واحداً. ولم يطل ذلك الغباء الهباء كثيراً، والحمد لله. لا أذكر إن كان هناك «خليل» محدد أمسك بيدي وأنقذني من وادي الضياع والعدم.
لكنني سرعان ما خرجت، مدركاً أن الإنسان اختصر حكمة الزمان في بساطة الأمثال. ومنها، قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. ومثل «عشراء صباي» كنت أستأجر الدراجة النارية وأسرع بها على الطرقات كأنما العالم كله يصفق لي. وكلما أتذكر ذلك الآن، أقول في نفسي مرتعداً، كيف كنت أعود حياً!..