أميركا لو صدقت لوجدت سبيل حلّ الدولتين

منذ 9 أشهر 104

تترنح بارقة الأمل بهدنة ممتدة أو وقف لإطلاق النار ولو مؤقت في غزة بانتظار ما ستسفر عنه محادثات باريس الرامية إلى هدنة، وتلافي استمرار التصعيد وتفاقمه خلال شهر رمضان المقبل.

الخوف من التصعيد مردّه مواقف حكومة بنيامين نتنياهو المعلنة وإصرارها على مهاجمة رفح على الرغم من شجب الإدارة الأميركية وكثير من الدول لهذا الجنون الهستيري، إضافة إلى تعثر المفاوضات مع مصر وقطر حول إطلاق الرهائن وقرارها الأرعن تقييد دخول المسلمين من فلسطينيّي الداخل والقدس إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، بعد فرض قيود مشددة على فلسطينيّي الضفة، وحظر فلسطينيّي قطاع غزة. في غضون ذلك، استخدمت واشنطن حق النقض ضد قرار لمجلس الأمن تقدمت به الجزائر يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار بذريعة أنه يعرض المفاوضات الحساسة الجارية للخطر، مقترحة صيغة بديلة تحذّر من مخاطر الهجوم العسكري على رفح ووقف مؤقت لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن بناء على صيغة تتضمن إطلاق سراح جميع الرهائن وتأمين دخول المساعدات إلى غزة.

لا شك أن التصعيد وبلوغه حد مهاجمة رفح سوف يعقّد الأمور أكثر مما هي معقّدة ويزيد من معاناة السكان وعملية الموت البطيء التي يتعرضون لها من جهة، ويعزز احتمال تمكين القوى الرافضة للسلام من الطرفين المتحاربين، إضافة إلى القوى الممانعة في الإقليم المناهضة له والعاملة على زعزعة استقرار المنطقة، من جهة أخرى. فاستمرار حمام الدم يمنحها فرصة لرفع وتيرة انخراطها العملياتي في الحرب، كما هي حال «حزب الله» في لبنان أو الحوثيين الذين تهدد ممارستهم الاستفزازية الملاحة البحرية في البحر الأحمر.

تأمل الإدارة الأميركية في استخدام صفقة إطلاق سراح الرهائن للانتقال من حرب غزة إلى تحقيق اختراق إقليمي تاريخي أوسع بين إسرائيل والدول العربية، وتحقيق نصر استراتيجي حاسم ضد القوى المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط. فهل سيعلن البيت الأبيض مواعيد محددة أو خطة مفصلة لإقامة دولة فلسطينية؟ من الصعب حالياً الإجابة، إنما المرجع أن جو بايدن يسعى بجهد ملموس إلى إنجاز صفقة شاملة قبل الصيف عندما تكون الحملة الرئاسية على أشدها. فهل تثمر نوايا الإدارة الأميركية وتحقق مثل هذا الاختراق في وقت تظهر جميع المؤشرات أن الوصول إلى القليل متعذر وصعب، فكيف إلى الصفقة الشاملة؟

حتى الآن، فشلت سياسة الرئيس بايدن في إدارة الصراع، وشبه إدارة للسياسة في إسرائيل، بالتوصل إلى نتائج على صعيد الحرب وفي السياسة، يدل عليه مضمون الوثيقة التي أعلنها نتنياهو «لليوم التالي» لإنهاء الحرب، ولم يبقَ تالياً أمامه إلا ممارسة أقصى الضغوط الممكنة والمتاحة على حكومة نتنياهو للوصول إلى المنشود، وبات ذلك لزاماً على واشنطن، لأن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة كما مصداقيتها باتت على المحك. فحرب غزة ليست كالحروب السابقة. صحيح أنها حرب يخوضها عملياً طرفان إقليميان، لكنها في الواقع حرب بين أميركا وحلفائها من جهة، ومحور إيران ومن ورائها روسيا، وربما الصين من جهة أخرى. في الوقت الذي تنظر إسرائيل فقط إلى «حماس» باعتبارها تهديداً وجودياً، وترى في القضاء عليها هدفاً حاسماً، باتت الإدارة الأميركية تعي أن التهديد يتجاوز «حماس» ليصل إلى إيران وأذرعها وروسيا والصين، ولا سيما أن الأخيرتين اتخذتا منذ بدء الحرب في غزة منحى أكثر دعماً للفلسطينيين، يستهدف تعزيز نفوذهما في المنطقة والجنوب العالمي، في إطار المنافسة مع الغرب. من جهة أخرى، عطلت الحرب مسيرة التطبيع التي تعتبرها واشنطن محورية، لأن تشكيل بنية أمنية مستقرة في الشرق الأوسط هو الذي سيقوض التهديدات الإيرانية لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة ولحلفائها ويحد من النفوذ الصيني والروسي في الإقليم.

ما هي الضغوطات التي يمكن للإدارة الأميركية فرضها على حكومة نتنياهو في خضم حملة بايدن الرئاسية لولاية ثانية، والانتصار الذي يسعى إليه نتنياهو لم يتحقق، ولن يتحقق، والحرب لو توقفت مؤقتاً فستتجدد، وطالما أن حظر التزويد بالسلاح شبه مستحيل لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي الذي لا يسمح بما يهدد الأمن الإسرائيلي؟

في الواقع، الضغوطات الممكنة كثيرة، بعضها عرضي كتوسيع العقوبات التي فرضتها على 4 مستوطنين إسرائيليين متورطين في أعمال العنف ضد فلسطينيين في الضفة الغربية، لتشمل من وراء هؤلاء صناع القرار السياسي والعسكري، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية التي أغلقها دونالد ترمب. وبعضها الآخر جوهري، كالتلويح بخفض المساعدات العسكرية لإسرائيل في ظل حكومة نتنياهو، طالما أن الحظر الكامل متعذر، والضغط من الداخل لإقصاء اليمين المتطرف عن الحكم، ومن جهة أخرى مساعدة السلطة الوطنية على تحقيق الإصلاحات المطلوبة وتزويدها بالموارد الرئيسة اللازمة للقيام بمسؤولياتها وتهيئتها لإمساك غزة فور وقف الحرب، كما الانخراط في مسار مفاوضات مع إسرائيل. وأقصى هذا النوع من الضغوطات هو نقل نية واشنطن بالاعتراف بدولة فلسطينية من حيز القول إلى الفعل، وتشجيع الدول الحليفة والصديقة على الأمر نفسه. واشنطن تعرف التحفظات الإسرائيلية بشأن الدولة الفلسطينية، وعلى رأسها المخاوف الأمنية، إنما إسرائيل تعرف أن واشنطن سوف تتعامل مع هذه القضية كمصلحة أميركية، كما هي إسرائيلية، بتلبية معايير أمنية واضحة، لا تسمح بتهديد الاستقرار.

يبقى أن نعرف إلى أي مدى تعطي إدارة بايدن الأولوية حقاً لحل الدولتين، ومدى استعدادها لبذل ما يلزم لإنجاح سياساتها المعلنة في المنطقة، بما في ذلك وقف التصعيد وفتح الطريق نحو حل الدولتين والسلام الشامل والتصميم على مواجهة ممارسات حلفاء إيران، بخاصة تلك الموجهة ضد المصالح والوجود الأميركي في المنطقة. إن عامل الوقت المتمثل في المدى الزمني للعملية العسكرية الإسرائيلية حاسم بالنسبة للإدارة، إذا كانت تريد دخول الحملة الانتخابية التي يبدو أنها ستكون الأصعب في تاريخ البلاد، بثبات، وليس كبطة عرجاء. لذلك تحتاج إلى وقف سريع للإطلاق.

الفاعلية والمصداقية الأميركية تواجهان تحديات حقيقية نتيجة سياسات الحكومة الإسرائيلية التي أضحت تهديداً لمصالح واشنطن وسياساتها في الإقليم، وعلى واشنطن البدء بتعديل سياستها تجاه إسرائيل، ولا سيما بعدما تبين أن الدينامية الوحيدة، القادرة على تبديل المسار الحالي للوضع وتبديد مخاطر تصاعد الحرب والانزلاق إلى مزيد من المواجهات ضد الجماعات المدعومة من إيران التي يمكن أن تشعل حريقاً إقليمياً واسعاً، هي أميركية بامتياز.