أميركا اللاتينية بين يسار صاعد ويمين متربص

منذ 1 سنة 277

أميركا اللاتينية أرض التحولات والتغيرات بين الثورة والانقلابات والمعاناة.، لكنها في السنوات الأخيرة، عاشت حالة نسبية من الاستقرار.
في الأيام القليلة الماضية شهدت جمهورية البيرو، انقلاباً برلمانياً أزاح الرئيس بيدرو كاستيو، ونصَّب محله نائبته. كاستيو كان من زمرة الرؤساء اليساريين الذين يحكمون في أميركا اللاتينية. هناك 13 دولة يحكمها رؤساء يساريون، أي غالبية دول أميركا اللاتينية. 3 دول فقط يقودها رؤساء يمينيون، هي، الأوروغواي والباراغواي والإكوادور. اليسار وُلد في أميركا اللاتينية مبكراً. مقاومة الاستعمار الإسباني والبرتغالي، قادها يساريون مسلحون، وكان حلمهم توحيد دول القارة، وإقامة دولة واحدة قوية على غرار الولايات المتحدة الأميركية. قاد سيمون بوليفار ثورة مسلحة من أجل التحرير والوحدة، لكنه لم ينجح في تحقيق ذلك. بعد نجاح ثورة كاسترو وجيفارا في كوبا، انتعش اليسار اللاتيني ووصل عدد من قادته إلى الحكم. اتسم الحكم اليساري بالديكتاتورية والعنف، وسبّب ذلك تذمراً في صفوف العامة.
في تسعينات القرن الماضي، تصاعد المد اليساري بقوة. هوغو شافيز في فنزويلا، ولولا داسيلفا في البرازيل وفوستر كيرشنر في الأرجنتين وإيفون موراليس في بوليفيا، وعاد دانيل أورتيغا إلى الرئاسة في نيكاراجوا، ووصل خوسيه مورسيكا إلى الرئاسة في الأوروغواي، ثم خلفت ديلما روسيف لولا داسيلفا في البرازيل، ومادورو في فنزويلا بعد رحيل هوجو شافيز. لقد التقيت معظم هؤلاء الرؤساء، في ليبيا أو في بلدانهم أو في اجتماعات الأمم المتحدة. المشترك بينهم هو، الطموحات الوطنية الكبيرة، ويمكن أن نصفها بأنها، نوبة أحلام أو لنقل آمال ولكن تغيب عنها الرؤية الموضوعية والحقائق الواقعية. الحديث عن العداء للولايات المتحدة الأميركية، هو الحاضر الأبرز دائماً. المفارقة، أن أميركا اللاتينية، لم تغادر مستنقع الفقر، رغم الإمكانيات الضخمة التي تمتلكها. الحالة الاستثنائية التي نجح فيها رئيس يساري أن يحقق إنجازات تذكر، هي ما حققه الرئيس لولا داسيلفا في البرازيل. انتشل عشرات الملايين من ربقة الفقر، وحقق إصلاحات في التعليم والصحة، وارتفع بقدرات البرازيل الصناعية، وخلَّص بلاده من ديون صندوق النقد الدولي، وحافظ على غابات الأمازون. لم يدخل لولا في صدام مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، وانفتح على دول آسيا وأفريقيا. تعرّض لحرب ضروس من اليمين البرازيلي، ومن بينهم رجال الأعمال الكبار، ووجهت لهم تهم الفساد وانتهى به الأمر إلى السجن. لكنه عاد في الانتخابات الرئاسية الأخير بفارق بسيط جداً من الأصوات ضد الرئيس بولسينارو اليميني المتشدد.
الحالة اليسارية النقيضة لتجربة لولا داسيفا البرازيلية، كانت في فنزويلا التي قادها الرئيس اليساري الثوري الحالم هوغو شافيز ومن بعده خليفته مادورو. سقطت فنزويلا في عهديهما في هوة الفقر المريع، وصلت البلاد إلى حد المجاعة الرهيبة. هاجر الملايين من السكان إلى الدول المجاورة بحثاً عن رغيف الخبز الذي عزَّ الوصول إليه في بلادهم التي تعوم فوق محيط من النفط. القلة من المؤيدين للنظام فقط هم من يستطيع أن يحصل على حاجاته الحياتية. طغت في البلاد الشعبوية اليسارية الشعاراتية، وغابت برامج التنمية والتطوير، وغاصت البلاد في ظلام دامس، فلا كهرباء ولا غيرها من الخدمات التي تلبي حاجات الناس. تشكلت قوى معارضة واسعة داخل البرلمان وخارجه، لكن القمع الأمني، أنهك المعارضين، فاندفعوا إلى مغادرة البلاد. دعمت الولايات المتحدة قوى المعارضة اليمينية الفنزويلية، لكن مادورو وحزبه صمدوا وتمكنوا من البقاء في السلطة. كُتب الكثير عن الوضع الفنزويلي العجيب. بلد تمتلك أحد أكبر الاحتياطيات من النفط في العالم، وشعبها يعاني من أكبر المجاعات التي يشهدها العالم اليوم، والأغرب هو قيام حكومة البلاد بتقديم النفط مجاناً إلى بعض الدول التي يقودها رؤساء يساريون. اليمين الفنزويلي رغم ما تعرّض ويتعرّض له من قمع، لا يزال يتربص بالحكومة اليسارية، ويعيد تنظيم نفسه لمواجهتها.
أدرك بعض قادة ومفكري اليسار اللاتيني، جملة من الحقائق التي طفت فوق الواقع، وما تعانيه الشعوب في دول حكمها أو يحمها يساريون، فقاموا بمراجعات جريئة، خاصة ما يتعلق بالتنمية وتوفير الخدمات للناس، وتوسيع مساحة الحرية والإبداع. قدم هؤلاء رؤية مستقبلية وخاصة في المجال الاقتصادي وكذلك مساحة الحريات، ومراجعات السياسية الخارجية.
رغم كل السلبيات التي شهدتها أميركا اللاتينية تحت حكم اليسار، فما زال يجد دعماً شعبياً واسعاً. لقد تحرك اليساريون في الوسط الشعبي بقوة، وخاصة بين الطبقة الكادحة، ووجدوا دعماً من اليسار اللاهوتي الذي يرفع شعار المسيحية الاشتراكية، لكن اليمين ما زال يعول على إخفاقات اليسار الاقتصادية، وينشر وعياً جديداً بين قطاعات الناس انطلاقاً من التغييرات التي يشهدها العالم وما حققته الدول التي تبنت الليبرالية الجديدة، وفتحت الدول بلدانها للاستثمار الخارجي، وأهمية إيجاد علاقة سلام وتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية. لا يزال اليمين اللاتيني يتربص ويتحرك بقوة عبر منظومة نشطة عابرة للدول من أجل إيجاد توجه عام يكبح قوة اليسار التي تتسيد المشهد السياسي.
المشاكل التي تواجه اليساري اللاتيني متعددة؛ فهو لم يخلّق برنامجاً يستوعب ما شهده ويشهده العالم من تغييرات وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الأنظمة الاشتراكية في شرق أوروبا، وما حدث في الصين من انفتاح وتطور رأسمالي حقيقي رغم وجود الحزب الشيوعي على هرم السلطة.
المعركة صامتة، لكنها قوية بين يسار سائد وصاعد في أميركا اللاتينية، ويمين متربص يعتقد أن رياح التغيير تتحرك لصالحه على المدى المنظور.