جارة العاصي، مدينة ابن الوليد أم الحجارة السود، مدينة ديك الجن وحمص العدية، أسماء عديدة لمدينة استثنائية تتربع في منتصف سوريا كثالث أكبر المدن بعدد السكان بعد دمشق وحلب.
حمص مدينة مترامية الأطراف فإذا تباهى أهلها بمساحتها قالوا إنها أكبر من لبنان الشقيق بأربع مرات إذ تبلغ 42226كم مربع، فهي تمتد بعمق البادية السورية في الشرق وتلامس حدود لبنان والمدن الساحلية في الغرب، وهي عقدة مواصلات في البلاد بين الشمال والجنوب إذ يقصدها الناس لمرونة سوقها في التعامل مع الزبائن منذ ما قبل الحرب وحتى الآن.
مدينة متناقضة
بجولة بسيطة داخل حمص اليوم يكتشف المرء حالة متناقضة من الهدوء وصخب الحياة، فالمدينة التي تستقبل في صباحاتها عدداً كبيراً من قاصديها من مختلف الأماكن بما فيها دول مجاورة لسوريا كـلبنان والعراق، تشعر زائرها بعميق أثر بداية يوم جديد وبأنه هبة ربانية تلزم فيها الصمت وتحيي على العمل في الوقت نفسه.
وعلى غير عادة المدن الصاخبة بإزعاج، لا تلبث أن تدخل من جهة مصفاة حمص ولوجاً لقلب المدينة إلا وترى الناس يروحون جيئة وذهاباً قاصدين أماكن لا تعد ولا تحصى فيها بصمت وهدوء، إذ تستقبل حمص كل من يحل فيها بترحاب وتفتح أمامهم خيارات متعددة للتبضع والعمل، فمن ورشات السيارات إلى المحال الكبرى التي رتبت بأناقة، إلى الشوارع التي تفضي جميعها إلى أماكن لا تستطيع أن تمر عليها مرور الكرام، فكل شيء مغر لتقف وتمعن النظر فيه وبخاصة لمن يزورها لأول مرة، وكذلك كل شيء مغر في عالم الأكل لتذوقه، فالمحال التجارية والخاصة بالطعام تصطف في نسق لن يدعك ترفع عينك دون أن تعطيه انتباهك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يعد محبو الكروسان الخاص بفرن القيمرية في دمشق القديمة يحتاجون إلى السفر إليه لتناول قطعة شهية منه، فقد جاء أهل حمص به إلى مدينتهم حيث يوجد فرع له بشارع الحضارة المكتظ بالعابرين الذين يقصدونه من كل اتجاه، حتى تكاد تصطف بالدور لتحصل على قطعة منه.
في هذه النقطة تجتمع المتناقضات مرة أخرى بهذه المدينة، فما إن تحصل على الطعام خاصتك حتى يباغتك بعض الأطفال المتسولين الذين يريدون خطفه من يدك، وهي طريقة أثارت حنق البعض معتبرين إياها تعدياً على خصوصياتهم وإزعاجاً، بينما ينام أحد الأطفال، الذي لم يتجاوز عمره 13 ربيعاً على الرصيف مقابل هذا المكان ويلتحف بغطاء بسيط يجعله يغط في ثبات عميق، إذ يمر أمامه الناس من دون أن توقظه حركتهم وكأن التعب جعل قواه تخور فيستسلم للنوم.
وما إن تسير بضع خطوات حتى تجد مكاناً يقدم طعاماً شعبياً حيث يفرد خبز التنور أمام المارة مدغدغاً بذلك حنينهم لهذا الطعام الريفي، إذ لم يكتفوا بعرض الخبز بل يقدمون المعجنات بالخبز ذاته ما يثير شهية المارة.
أسعار مناسبة
إن قاصد حمص سيفاجأ بفرق الأسعار ليس فقط بين المنطقة التي أتى منها وهذه المدينة، بل في مناطق مختلفة داخل المدينة، فالأسعار في منطقة الوعر تختلف عن مثيلاتها في الدبلان وشارع الحضارة، إذ تعتبر أسعاراً مناسبة جداً لغالبية الناس لتدني ثمن البضاعة.
لكن حتى في أسواق حمص الكبرى سيجد المتجول فرقاً عن مدن الساحلية، حيث تبقى الأسعار بالمدينة حتى قبل الحرب مفضلة لدى عدد كبير من أهل سوريا ومثلها حلب، إذ سيجد الزائر فرقاً واضحاً بين الأسعار لذات القطعة بين اللاذقية مثلاً وحمص.
ويدخل مدينة حمص يومياً مئات القاصدين من قراها الشرقية والغربية بهدف إنهاء أعمالهم وتأمين حاجاتهم، ومن ضمن ما يقصدونه مستشفى جامعة البعث المجاني الذي يعج بالمرضى والمراجعين، ويتميز المستشفى بأنه حديث البناء وتابع لجامعة البعث وكلية الطب البشري فيها، إذ يعتبر هذا المكان جامعاً لكل الأطباء المتخرجين الجدد مع أساتذتهم، وهم يقدمون معايناتهم بالمجان لجميع القاصدين.
أم الفقير والغني
وتقسم المدينة بشكل واضح اليوم لقسمين، فمنها ما زالت آثار الحرب ظاهرة عليه وواضحة أمام الزائر، وأخرى متعافية تماماً مما جرته المعارك عليها من خراب ودمار إلا ما ندر، فقد تطالع الزائر في هذه الأماكن منزلاً هنا أو هناك ما زالت آثار الرصاص عليه، أما داخل السوق التي تقسم لعدة أسواق كل بحسب المنطقة الموجود فيها، فتستطيع أن تسمع وأنت تنتقل من مكان لآخر خصوصاً عند مواقف الحافلات من ينادي على ركاب منطقة "بابا عمرو" ليعيد لفظ هذا الاسم ذاكرة الحرب، إذ كان لهذه المنطقة نصيب الأسد من المعارك التي أتت على كل ما فيها.
لكن لن تلبث أن تنشغل في خضم زحمة الأسواق التي تشهد حركة دائمة لا تنقطع على رغم كل الظروف الاقتصادية السيئة، فالمعروف عن مدينة حمص أنها "أم الفقير والغني"، فهي لن تدع أحداً يخرج من دون تلبية حاجته التي أتى من أجلها وبسعر أدنى من باقي المدن، وهذا ما يفسر لماذا هي مقصد لغير السوريين كـاللبنانيين بشكل خاص والعراقيين كذلك، فكل ما تريده ستجده في حمص.