على أبواب الأربعين من عمره يقف الشاب السوري محمد مردداً، "صحيح أني مصاب حرب، لكني لا أستطيع الجلوس من دون عمل"، إذ طاولته قذيفة حرمته المشي. وعلى رغم أن كلامه يعبر عن واقع معيشي غير جيد ووضع اقتصادي متردي يضطر أبناء بلاد الشمس للعمل من مشرقها لمغربها، إلا أنها تختصر تاريخاً حفر في جيناتهم، إذ يعتبر السوريون عاملين ومنتجين أينما حلوا وبكل فئاتهم.
أظهرت سنوات الحرب وتبعاتها المرونة في الانتقال من عمل لآخر ومن فكرة لأخرى، وفي ظل الصعوبات والمعوقات الداخلية والخارجية، استطاع المواطن السوري التأقلم مع كل وضع جديد وابتكار أفكار تيسر رزقه وتمنحه أملاً وفرصة جديدة للاستمرار.
فكرة مبتكرة
في مدينة اللاذقية الساحلية السياحية، والتي تعتبر ككل المدن الساحلية حول العالم يضفي البحر على مزاج سكانها نوعاً من الكسل، إلا أن أهلها نجحوا في الاستثمار بمدينتهم كل بحسب إمكاناته. إذ بعد أن كانت الأكشاك تغزو مدن سوريا بالكامل، قل عددها عقب قرار صدر منذ سنوات بإزالتها، وعلى رغم أن البعض عاد لفتحها إلا أن آخرين كثراً لم يتسن لهم ذلك لارتفاع كلفتها عليهم.
خلال هذه الفترة بدأ البعض يعيد إحياء السيارات القديمة بخاصة "الفوكس فاكن ترانستور" وتحويلها من أكشاك مزعجة على الأرصفة تعوق المارة إلى أماكن مميزة على أطراف الطرق.
قدم أصحاب "أكشاك السيارات" طلباً للترخيص الرسمي من البلدية، وجاءت بالموافقة للبعض بعد أن استوفوا كامل الشروط، ليتم معاملتها قانوناً معاملة الدكانة الصغيرة، إذ يترتب عليها ضريبة سنوية وتخضع للقانون الخاص بها.
طابع جديد
وككل المدن الساحلية يعتبر الكورنيش مقصداً ومتنفساً دائماً لأهله يلتقون أصحابهم وأصدقاءهم ويتناولون فنجاناً من القهوة، وهذا ما جعل رهف، صاحبة أول سيارة كشك في الكورنيش الغربي في اللاذقية، تأخذ هذه الخطوة وتبدأ عملها فيها بمساعدة أهلها وعدد من الأصدقاء منذ عدة سنوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اشترت الشابة السورية "مركبة ودهنتها بداية باللون الأزرق، ووضعت فيها آلة كبيرة لصنع القهوة بأنواعها والمشروبات الساخنة، إضافة إلى البسكويت والشيبس". وعن هذا تقول، "لم تكن هذه الفكرة برأسي جدية، فحاولت أن أصنع شيئاً رغبت في تجربته، ولكنه فتح آفاقاً جديدة وباب رزق لي ولعدد من أصدقائي".
لاقت هذه التجربة التشجيع من قبل أهل المدينة وبخاصة من يقصدون الكورنيش لقضاء وقت فراغهم فيه، إذ إن شكل السيارة مع رسوماتها خلق للمكان طابعاً جديداً وجميلاً، وهذا ما شجع عدداً من الشباب ليحذوا حذوها، فبعد سنوات قليلة انتشرت أكشاك السيارات في مدينة اللاذقية عموماً وعلى طول الكورنيش الغربي تحديداً، إذ يجد قاصد المكان كشكاً كل مئة متر.
نظام الورديات
هذه الفكرة استطاعت أن تكون باب رزق لعدد من العائلات، إذ إن رهف لا تعمل وحدها، بل يساعدها أصدقاؤها عبر نظام الورديات، إذ تتولى مهامها عند الظهيرة بعد أن تنهي دراستها وأشغالها، بينما يسهر صديقها كل الليل حتى الفجر ويسلم بعدها صديقتها التي تعمل من الصباح الباكر حتى مجيئها، وجميعهم طلاب أو متخرجون حديثون من الجامعة.
أما الكشك الذي يبعد عنها أمتاراً فيوجد فيه ثلاثة شبان يعملون كذلك بنظام الورديات الثلاث، بالتالي فهذا الكشك يعيل كذلك ثلاث عائلات، ومنهم وائل مصاب الحرب، إذ لا ينبس السائل ببنت شفة عن مشروب معين ليبادر بالإجابة أن كل شيء موجود فاطلب ما تريد.
وائل الذي كان يخدم في صفوف الجيش السوري وأصيب في قدمه لا يزال يرتدي البدلة العسكرية فهو يأتي للكشك بعد دوامه الرسمي الذي ظل يزاوله في أحد مستشفيات الدولة، وعن هذا يقول "أعمل في ثلاثة أماكن لأستطيع إعالة عائلتي، فلدي ولدان وزوجة ولا بد لي من العمل في ظل هذه الظروف".
وعمد وائل مع أصدقائه إلى شراء سيارة "الفوكس" منذ سنتين مقابل خمسة ملايين ليرة سورية (450 دولاراً)، وجهزوها وجعلوا عليها رسومات وألوان تلفت الناظر وتجذبه للتوقف عندهم.
من سيارة للوحة
وبما أن سيارة "فوكس فاكن ترانستور" هي العامل المشترك بين هذه الأكشاك، دخلت هذه السيارة إلى سوريا في خمسينيات القرن الماضي، ويتحدث غازي وهو أحد تجار السيارات عن ذلك بقوله "آنذاك لاقت هذه السيارة رواجاً كبيراً في البلاد آنذاك لكبر حجمها وقدرتها على السير في معظم الطرقات، إضافة لاستطاعتها على نقل عدد كبير من الأشخاص أو الحاجات الأخرى".
وتابع، "لقد بعتها في ذلك الزمن ما بين 2500 و3000 آلاف ليرة سورية، بينما وصلت منذ سنوات قليلة لخمسة ملايين ليرة (450 دولاراً) واليوم أصبح سعرها في حدود 20 مليون ليرة (1800 دولار)، ويبدو أنه إذا بقي الطلب عليها لغرض تحويلها إلى كشك سيزيد من سعرها، على رغم أن معظمها توقف عن العمل لارتفاع صرفها للوقود ولعدم وجود قطع غيار لها".
واليوم تساعد هذه السيارة مستثمريها على استخدامها براحة لسعة المكان من الداخل والخارج، بدءاً من رص الرفوف وعرض المنتجات عليها وصولاً إلى جعلها من الخارج مساحة واسعة للتعبير عن أذواقهم، فسيارة رهف التي غيرت لونها منذ مدة وحولته للأصفر، جعلت عليها رسوماً وكتابات تعبر عن رؤيتها العصرية للحياة والتي تجذب المارة للتوقف وقراءتها، مثل "أنا وأنت يا ريت عنا مكنة إسبريسو" و"ما تشرب القهوة إلا مع شخص بخلي وقتك رايق". أما سيارة وائل فحافظ على لونها ووضع عليها ملصقات مثل، "أحتاج جرعة من القهوة"، بينما ترك محمد سيارته على لونها.
كما وضعوا فوق السيارة شمسية كبيرة لتحميهم من الشمس صيفاً والمطر شتاءً، وجعلوا لديهم مكاناً صغيراً ليستطيع المارة الجلوس عندهم أثناء تناول مشروبهم والاحتماء من المطر.
متعة وعمل
وعن هذا تقول لمى، "أحب أن آتي إلى هنا وتناول القهوة بأحد هذه الأماكن، فهي تشعرني بحالة استرخاء، فمطر في الخارج وكوب من القهوة الساخن مع منظر البحر والسماء هو بالنسبة إلي وقت ممتع"، وهذا ما يوافق عليه أنس الذي يعمل في مكان قرب الكورنيش، "أستغل وقت الاستراحة في العمل لأسير إلى هنا وأتناول مشروباً ساخناً أحدده كل مرة، فأنا أحب أن أجرب نوعاً جديداً كل مرة".
ومن الكورنيش الساحلي إلى أحد الحارات في مدينة اللاذقية، حيث يجلس محمد في سيارته ينتظر زبائنه على كرسيه المتحرك، يقول، "هذه السيارة كانت لي وكانت متوقفة منذ زمن في الشارع وشعرت أنها عبء علي، ولكن عندما أصبحت حالي هكذا وبعد بحث مستمر عن عمل يراعي إصابتي، طرح أحد أصدقائي أن أوقف البحث عن العمل وأفتحها وأضع فيها بعض الأصناف، فرأيتها فكرة ممتازة وبدأت بمساعدة منه بالإجراءات، وهي اليوم مصدر رزقي ويساعدني أبنائي وزوجتي فيها".
وهذا يدل على نجاح هذه الفكرة وانتقالها من مكان لآخر، إذ انتشرت في أماكن متعددة في مدينة اللاذقية، وكذلك في مدن سورية أخرى، ولكن يبقى لديها بعض التأثيرات السلبية، إذ يتعرض أصحابها للابتزاز من بعض المتنفذين، فمن ضريبة الكهرباء إلى ملاحظات بسيطة تجعلهم ينفقون بعض الأموال لدفع مخالفة هنا أو هناك مثل رؤية المفتشين الدائمين لإحدى عجلات السيارة على الأرض ويحتاج لملئه بالهواء.