الإجابة:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الخوف من الله - عزَّ وجلَّ - من أعظم منازل الدِّين وأنفعها للقلب، وأعلى شُعَب الإيمان، وهو رائدُ المسلمِ إلى إخلاص العمل لله، وإلى مراقبته في جميع الشؤون، وإلى ترك الذنوب؛ وهي فرضٌ على كلِّ أحدٍ؛ قال اللهُ تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُون} [النور:51]، وقال: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة: 44]، ومدح الله تعالى أهله في كتابه وأثنى عليهم؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * َالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57-61].
غير الخوف أحد محركات القلوب إلى الله عز وجل، ولابد أن يكون معه المحبة لله هز وجل والرجاء؛ قال الله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 2، 3]، فوقع الوصف بشديد العقاب بين صفة رحمة قبله، وصفة رحمة بعده، فقبله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، وبعده: {ذِي الطَّوْلِ}، وأخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة؛ فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وهذا إيجاب منه على نفسه، فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجب بنفسه على نفسه، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}[الأعراف: 156]؛ وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى كما في الحديث المتفق على صحته: "إنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَه فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي"، وفي لفظ: "سَبَقَتْ غَضَبِي"؛ فصفة الرحمة أعظم من صفة الغضب، ووصف نفسه سبحانه بالرحمة وتسمى بالرحمن، ومن أجل هذا يحب التوابين؛ وفي الحديث القدسي الذي رواه أحمد والترمذي عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".
وفي الصحيح عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها الله سيئة واحدة»،وفي رواية في الصحيح: "ومحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك"، أي: بعد هذا الفضل العظيم من الله، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات، لا يدخل النار إلا من أصر على التجرأ على السيئات عزمًا وقولاً وفعلاً، وأعرض عن الحسنات همًا وقولاً وفعلاً، وألقى بيديه إلى التهلكة، قال بن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة؛ لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة؛ لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات.
يبينه الحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا، تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
أما ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغفرة الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر فمنها:
ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطّت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر".
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر".
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على شفعة الضحى، غفرت له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر"؛ أحمد أوبو داود.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبح ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، خلف الصلاة، غفر له ذنبه، ولو كان أكثر من زبد البحر"، رواه أحمد وأصله في الصحيحين.
هذا؛ وأكثر ما يعينك على صلاح قلبك وثباتك على الحق، قراءة القرآن الكريم بتدبر، وتأمل ما ورد فيه من أحسن القصص، وما امتنَّ به سبحانه وتعالى على عباده من نجاة الحائرين الواقعين في المهامِهِ البريَّة، وفي اللجَج البحرية، إذا هاجت الرياح العاصِفة؛ لأنَّهم حينئذ يُفردون الله بالدعاء له وحده لا شريك له؛ قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63، 64]، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22، 23]، وقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، وقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [النمل: 63].
جاء في "مجموع الفتاوى"(1/96-97): "اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وأقواها المحبة وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة؛ قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، والخوف المقصود منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده؛ فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه وكل أحد يجب أن يكون عبدًا لله لا لغيره.
فإن قيل فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا يحركها شيئان:
أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به؛ ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42].
والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه قال الله تعالى: { فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [النحل: 53]، وقال تعالى: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]، فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة من الإيمان وغيره:- فلا بد أن يثير ذلك عنده باعثًا.
وكذلك الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه، وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو، وما ورد في الرجاء". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.