أعمال البر وأعمال العنف

منذ 1 سنة 201

في رمضان تبرز على الأقل ظاهرتان في فضائنا العربي، الأولى كثرة المسلسلات التلفزيونية، والأخرى كثرة المطالب للتبرع لأعمال البر والدعوة، ولقد سهّلت وسائل الاتصال الاجتماعي التي تمر بثورة حقيقية، وصولَ تلك الأعمال (المسلسلات) وتلك الطلبات (المساهمة في أعمال الخير) كي تصل لعدد كبير من الناس.
من الصعب التعميم حول الفوائد والمضار من تينك الظاهرتين، إلا أنه من المؤكد أن هناك بعض «الفوائد» والكثير من المضار.
إذا أخذنا مسلسلات رمضان، فإن الغالب فيها تقديم صورة غير واقعية للأحداث التي تعالجها، قد يرى البعض أن الفن شيء والتاريخ شيء آخر، والإشارة هنا ليس إلى الاختلاف إنما إلى الرسالة التي تُترك في ذهن المتلقي، وهي رسالة تمجّد العنف في الغالب وتشيع الاعتماد على القيم السلبية، كمثل سطوة القوة ونجاح الحيلة وتفشي الخرافة، أي أننا أمام القليل الممتع ويحمل رسالة إيجابية، والكثير مما يشيع كماً من القيم السلبية، على الرغم من المال الوفير الذي يُرصد لإنتاج تلك الأعمال، فإن الضعف الحقيقي في «الورق» كما يقول أهل الصنعة، فإن ضعف النص، كثر الحشو، ولأن العملية كلها «تجارية» في الغالب فيروّج لبعض تلك الأعمال من خلال الإعلانات المباشرة وغير المباشرة تأكيد لقول الشاعر المرحوم صلاح عبد الصبور «وسقط القول قد يعلو بأجنحة من الترديد»!
على مقلب آخر، كثرة المطالب من أشخاص وربما مؤسسات أهلية للتبرع لأعمال البر، وهو أمر يجد صداه الإيجابي لدى كثيرين في أيام مباركة، كما أنه «صناعة» تدر الملايين من الأموال، بعضها يُعرف أين تذهب، وأخرى لها مسارب مختلفة قد تقع في الأيدي الخطأ؛ ولأن الموضوع له حساسية خاصة في هذا الشهر، فإن الحديث حوله قليل ونقده أقل، وتتخوف السلطات العامة من الاقتراب منه من أجل تنظيمه أو توثيق مقاصده، إلا أن بعضه في الغالب يذهب إلى حركات التطرف.
على سبيل المثال لا الحصر، هناك ما هو ملموس ومتابَع من الإعلام، وما هو بعيد عن الأضواء وتكمن الخطورة في انتشاره، المثال هنا ما يحدث في الدول الأفريقية جنوب الصحراء، فتجد بعض من يطالب بالتبرع لـ«فقراء أفريقيا» وحفر الآبار! من أجل أن تتوفر المياه والغذاء، وهي في ظاهرها تبدو إيجابية، إلا أن المعارك الدائرة والاستنزاف في الدم والموارد في تلك المناطق يجري في معظمه باسم «الأسلمة» حتى في المجتمعات المسلمة أصلاً.
يمكن ملاحظة صعود الإسلام الأصولي في أفريقيا جنوب الصحراء في ثمانينات القرن الماضي مع نشاط حركات الإسلام الحركي، فقد شهدت المنطقة ظاهرتين متلازمتين، الأولى موجة من الأزمات الاقتصادية والسياسية أدت إلى تفكك اجتماعي واسع النطاق، وتآكل سلطة الدولة وصعود العسكر إلى الحكم، والظاهرة الثانية تدفق الدعاة محملين «بأموال المتبرعين» التي ترمي في الظاهر لمساعدة الفقراء مع شحنة من التثقيف يعتمد على الاتباع وتلقين العقول البائسة والفقيرة بأفكار عنصرية، ووعي زائف بالتفوق، يؤدي إلى نبذ الآخر في الوطن وشيطنته؛ مما يزيد من تشظي المجتمع، ومع حفر البئر زرع الفتنة! هنا برزت «الهوية المتشددة» في تلك المناطق لأن الكثير ممن قدم نفسه للدعوة كان على معرفة قليلة بمبادئ الإسلام الحنيف ومقاصده، وعلى الكثير كره الآخر المختلف، كل ما توفر له بضع أفكار عامة وقشرية، يجري بثها في تلك المجاميع، فاعتقد أغلبهم على غير بيّنة أن ذلك هو الإسلام، وظهرت حركات مثل «بوكو حرام»، و«طالبان النيجيرية» وفروع تنظيمي «القاعدة» و«داعش».
«بوكو حرام» تعني «التعليم الغربي حرام»! لقد مزّقت هذه الحركات الدول التي ظهرت فيها، بعضها معظم سكانها مسلمون، والبعض الآخر مختلطة بديانات أخرى منها المسيحية وبعضهم ليسوا منتمين إلى دين سماوي.
«بوكو حرام» شنّت مجموعة من أعمال العنف والقتل ضد الحكومة النيجيرية، «حركة الشباب» في الصومال أرّقت المجتمع واستنزفت كل موارده وما زالت، و«جماعة أنصار الدين» في جمهورية مالي التي تريد أن تستقل بشمال البلاد، والكثير من حركات التطرف.
بشكل عام، فإن المشهد في معظم أفريقيا جنوب الصحراء مشهد عنف واقتتال وصراع، استدرج في وقت ما قوى خارجية وغربية للتدخل، وفي وقت آخر جماعات مسلحة مرتزقة من الدول الشرقية، كلها في سبيل الحصول على مكاسب وفي الوقت نفسه تشهد المنطقة خللاً فادحاً في السياق السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي، وقد يُسمع هذا الخلل في الجوار وهو في الغالب جوار عربي مما يهدد السلام والأمن في المنطقة.
كما هو معروف ومنطقي أن أي صراع يحتاج إلى تمويل، من هذا الجانب فإن الطلب والإلحاح على التبرع في رمضان لـ«إخوانكم في أفريقيا» أو «إخوانكم الدعاة» من دون رقابة ومن دون تتبع لمسار هذه الأموال، وعادة تسارع إلى التدفق بغزارة في مثل هذه الأيام الخيرة من أهل الخير، عدم الرقابة عليها مدخل للاستخدام غير السوي، سواء في تمويل التطرف في الخارج أو الداخل والتي قد ينتج بعضها خللاً أمنياً فادحاً في وقت ما في المستقبل حتى على من تبرع بها بحسن نية.
بعض القوى والمجاميع المستفيدة تقاوم «تنظيم» هذه التبرعات ومراقبة صرفها وتصرّ على غموض طرق استخدامها، وتصرف بعض الإدارات النظر عنها بسبب حساسية مفرطة وغير مبررة تجاه عدم مراقبة «عمل الخير»، ولكن كل ذلك يدخل في تعظيم محيط المخاطر والتي نشاهد نتائجها كل يوم، في تلك الهجمات والصراعات التي تعصف بعدد ليس قليلاً من دول القارة السوداء، بل وبمحيطنا العربي أيضاً.
إذا كان تأثير بعض المسلسلات الرمضانية السلبية هو مؤقت وطارئ، فإن الأموال التي تُجمع وتتسرب إلى مناطق العنف تربي أجيالاً من الأصوليين أصحاب فكر تحطيم الدولة وتسميم المجتمع نتائجها مقيمة وعابرة للأوطان.
آخر الكلام:
لا تعطني سمكة ولكن «علمني» كيف اصطادها كما يقول الصينيون؛ فالعلم هو الأساس!