أعراس الموريتانيين... أموال تتطاير على "مسرح الزيف"

منذ 1 سنة 147

تصدح مكبرات صوت عالية الضجيج في صالة أعراس بحي سانتر أمتير على أطراف العاصمة الموريتانية نواكشوط. تمجد الأغنية التي يشدو بها فنان شعبي مآثر أهل العروس، فيدب الحماس الممزوج بواجب إكبار الأصهار في نفس العريس ليمطر الفنان برزمة أوراق نقدية تتطاير فوق رأسه في مشهد يتكرر في أغلب مناسبات الموريتانيين.

في عصر السماوات المفتوحة وثورة التكنولوجيا، أصبحت هذه المشاهد مادة للجدل وتساؤلات النخبة وموجهي الرأي العام في موريتانيا، كما أنها تستدعي حديث التفاوت المادي بين طبقات المجتمع.

يتركز السؤال الاجتماعي المحوري في صالونات نواكشوط حول تأثير هذه الظاهرة على تراجع نسب الزواج في صفوف الشباب الموريتاني لارتفاع كلفه المادية وصعوبة تأمين مبالغ مالية كبيرة تخصص في الغالب لرميها على الفنانين في سهرات الأعراس، ليبقى العريس محاصراً بديون قد يكون تسديدها لاحقاً سبباً مباشراً في الطلاق لاختلال حساباته المالية جراء المباهاة في تنظيم حفل عرس باذخ.

العادة كالشرع

يلجأ المدافعون عن ظاهرة "تنقيط" الفنانين في موريتانيا إلى الموروث الثقافي والاجتماعي. يقول يحيى ولد محمد "عندنا في موريتانيا قول مأثور هو أن العادة كالشرع، ونحن مجتمع محافظ بطبعه، ولدينا عادة أصيلة في هذه الربوع من العالم العربي، وهي إكبار الفنانين الذين هم بدورهم يقدروننا".

ترى الناشطة فنفونة بوب جدو، رئيسة جمعية "وسطاء من أجل السلام" أن "الظاهرة قديمة ولها اعتبارات اجتماعية، وهي امتنان الشخص الذي يمجده الفنان في عرس، لأن المجتمع بطبعه يحب الإطراء، والفنان في دوره التقليدي الذي كان يلعبه يذكر مناقب الممدوح ويظهرها، كما أن هذه الأموال التي تعطى للفنانين تدخل في إطار الدفاع عن العرض، وفي موروثنا الإسلامي عديد من القصص في هذه الجزئية، كما أن صفة الكرم متجذرة في المجتمع الموريتاني، والعلاقة بين قبائل موريتانيا والفنانين قديمة، وكنوع من الامتنان يقوم الفنان برد الاعتبار عبر تمجيد الشخص المعني".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا تتردد الشابة نبغوها سالم في الدفاع عن ظاهرة رمي النقود في حفلات الأعراس، وتقول "هذه عادة دأب الموريتانيون عليها منذ القدم، صحيح أن الأوراق النقدية حديثة في معاملاتنا، لكننا قديماً كنا نكرم وفادة الفنانين بوسائل ذلك العصر".

وتضيف نبغوها "كان الفنانون يحيون حفلات الأعراس منذ القدم في هذه الصحراء، ويهب لهم أهل المناسبة الاجتماعية الإبل والأغنام وأنواع الحبوب، وفي العصر الحالي أصبحت وسيلة التبجيل لهم هي الأوراق النقدية التي توزع عليهم أثناء وصلاتهم الفنية التي تتغنى بمناقب أهالي العريسين".

من يملك ولا يملك

دفع النقاش المحتدم حول ظاهرة "التنقيط" في المناسبات الاجتماعية إلى إصدار الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني تعليمات للحكومة "بتوعية فئات المجتمع حول البذخ في المناسبات الاجتماعية، وتخلل ذلك أنشطة حكومية لتنفيذ تلك التعليمات مع جهات معينة"، بحسب بيان صادر من مجلس الوزراء الموريتاني في يوليو (تموز) الماضي.

ومع تعدد حالات البذخ التي تابعها الموريتانيون على وسائل التواصل الاجتماعي، دخل المتخصصون على الخط، فأصدر منتدى السوسيولوجيين الموريتانيين بياناً يسلط الضوء على "الجانب الاجتماعي السيئ لهذه الظاهرة بما ينطوي عليه من ترميز لأنشطة البذخ والعطاء".

وخلص بيان السوسيولوجيين إلى أن "تفسير الظاهرة يعود إلى طبيعة التنافس السياسي والاجتماعي بين من يملك ومن لا يملك، من جهة، فالذين يستأثرون الآن بعائد مادي جيد تكون لديهم رغبة في التميز واستحضار المكانة الاجتماعية في المناسبات، وهو فعل ينتج عن محاكاة الذين كان لهم وزن اجتماعي معين قديماً ولم تعد عائداتهم المادية متاحة حالياً، مما يجعلهم يتمظهرون بواقع مخالف لواقعهم، وإن كان أساسه التاريخي متمثلاً في الذهن، فإن واقعه الاجتماعي مخل".

ويرى المخرج عثمان علي، عضو نقابة المهن التمثيلية أن "هذه الظاهرة سيئة، فالفقراء أولى بهذه الأموال التي تبذر في المناسبات الاجتماعية من أجل الوجاهة الاجتماعية".

ودعا علي المجتمع الموريتاني إلى تخطي هذه السلوكيات التي تجازوها الزمن ومآلها الزوال، لأن الكل ينحو تجاه تبسيط الكلف، وأغلب الأفراح تتم من دون دعوة الفنانين.


شيء من الماضي

ينظر عديد من الموريتانيين إلى ظاهرة التنقيط، أو "الزرك" كما تسمى شعبياً، كطقس ينتمي إلى التراث سينحسر تدريجاً كفعل ثقافي شائع بين جمهور المواطنين.

يرى الباحث الاقتصادي عبدالله مولاي أن "التغيرات الاقتصادية التي يشهدها المجتمع الموريتاني ستحد من هذه الظاهرة، لأن الحياة العصرية الضاغطة تحتم على الموريتانيين مراجعة سلوكياتهم التي جلبوها من البادية".

ويضيف مولاي "في المستقبل القريب ستنحصر ظاهرة البذخ في دوائر اجتماعية ضيقة تعيش في بحبوحة مادية وتسعى إلى تعزيز مكانة اجتماعية موروثة أو تسعى إلى حجز مكان لها ضمن صفوة المجتمع الذي تلعب فيه الوجاهة الاجتماعية دوراً مركزياً".