أزمة جديدة في عالم الجاسوسية

منذ 1 سنة 185

بعد أسبوعين من تسريب هائل لما يُفترض أنها وثائق سرّية تخص الحكومة الأميركية، لا تزال إدارة بايدن تبدو عاجزة عن تفسير ما حدث، ناهيك باقتراح سبل لتجنب معاودة وقوع مثل هذا الحادث المأساوي الهزلي في آن واحد. عند إمعان النظر بالأمر، قد لا يبدو ذلك الوضع مثيراً للدهشة بالنظر إلى أنه لا يوجد حتى الآن طرح موثوق به يشرح ما حدث عندما سربت «ويكيليكس» 700.000 ألف وثيقة سرّية منذ ما يقرب من 13 عاماً.
ومع ذلك، فإن التركيز على الجوانب الشرطية من هذه الحوادث ربما يشتت الانتباه بعيداً عن قضايا أخرى ذات صلة، فيما يتعلق بتصنيف الوثائق السرية واستغلالها من جانب صناع القرار.
بدايةً، تتضمن الوثائق المسربة عدداً كبيراً من التقارير التي كان قد ظهر فحواها بالفعل عبر وسائل الإعلام الرئيسية. على سبيل المثال، لم يكن من المثير للدهشة معرفة أن أوكرانيا لا تملك جميع الأسلحة الضرورية خلال الربيع بوجه الاحتلال الروسي. ولم يكن من المثير للدهشة معرفة أن الولايات المتحدة تتجسس على حتى حلفائها الذين، حسب افتراضنا، يتجسسون من جانبهم على الولايات المتحدة.
الواضح أن تصنيف «السرية» أو حتى «شديد السرية» يطلَق على عدد هائل بصورة مفرطة من الوثائق. وربما يعود ذلك إلى رغبة من يقدمون هذه الوثائق في رفع مكانتهم. بيد أن هذا الأمر يثير كذلك التساؤل حول ما إذا كان صناع القرار سيتمكنون من قراءة جميع هذه الوثائق، ناهيك باستيعابها. ومن الممكن أن يخلق هذا موقفاً تصبح في إطاره لدى جهاز صنع القرار جميع المعلومات التي يحتاج إليها، لكنه غير قادر على فهم ما يجري حقاً.
عندما وضعت كتابي عن العلاقات الإيرانية - الأميركية منذ سنوات، استعنت بأكثر من 30 مجلداً من الوثائق التي صادرها «طلاب» الخميني من داخل السفارة الأميركية المحتلة في طهران. وكانت المجلدات التي نشرها «الطلاب» عبارة عن عينات منتقاة من مجموعة ضخمة من الوثائق، وكشفت أن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لديها أكثر عن 5000 «مصدر» أو «مخبر» عبر إيران، وأنها تتلقى تقارير على نحو منتظم عن تقريباً جميع جوانب المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الإيراني. ومع ذلك، لم يكن المرء بحاجة إلى خيال خصب ليدرك أن الكثير مما يطلق عليها وثائق «شديدة السرية» حملت أصداء ما يمكن للمرء أن يقرأه في الصحف الصادرة في طهران أو خلال زيارة عادية للسوق الكبيرة بالمدينة. وقد جرى استغلال ختم «سري» أو «شديد السرية» لتعزيز مكانة من وضعوا هذه الوثائق. بل الأسوأ من ذلك أنه في الحالات التي يمكن للمرء تتبع مسار وثيقة ما من المصدر عبر الترتيب الهرمي لجهاز صنع القرار، بدا واضحاً أن الفواصل والتعرجات في رفع التقارير حالت دون استغلال كبار صناعي القرار في واشنطن المعلومات المتاحة.
وكشفت هذه الوثائق، مثل الأخرى التي جرى تسريبها تواً، أمراً آخر: أن التقارير السرية المفترضة تحمل أصداء المزاج العام السائد إزاء القضايا المعنية.
ويعني ذلك أن التأثير العام لهذه التقارير السرية كان التأكيد على ما كان الجميع يفترضون بالفعل أنه صحيح في ذلك الوقت. وعليه، فإن المحلل الاستخباراتي المعنيّ بدأ عمله من فرضية قائمة بالفعل، وحاول تأكيدها.
منذ ذلك الحين، عاينّا الكثير من الأمثلة على مثل هذه الطريقة الغريبة في العمل. يُذكر أنه حتى اللحظة الأخيرة، لم يتمكن مراقبو الكرملين داخل واشنطن من توقع انهيار الاتحاد السوفياتي مثل بيت من الورق. بدلاً عن ذلك، ركزوا على سياسات «بيريسترويكا» و«غلاسنوست» الخاصة بميخائيل غورباتشوف، بمعنى آخر فإنهم رددوا ما كان يقرأه الجميع في الصحف. وكانت النتيجة إنتاجهم سيلاً من التقارير «شديدة السرية» عن أشخاص أصبحوا دون قيمة تُذكر في لمح البصر.
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، توقع «مجتمع الاستخبارات» نصراً سريعاً لجيش صدام حسين. كان الملالي قد قطعوا رأس الجيش الإيراني، وسجنوا فعلياً جميع الطيارين في القوة الجوية، وأعادوا المجندين إلى الوطن، على أمل أن يضمن الإمام المخفيّ أمن إيران. على أرض الواقع، استمرت الحرب «الخاطفة» التي شنها صدام ثماني سنوات، وانتهت بالتعادل الغارق في الدماء.
عند غزو أفغانستان عام 2001، بالغ «مجتمع الاستخبارات» في تقدير القدرات القتالية لجماعة «طالبان». واستمرت الصورة النمطية للمقاتل البشتون بوصفه «آلة حرب بشرية» لفترة طويلة بعد فرار الملا محمد عمر من كابل على متن دراجته النارية اليابانية الصنع. وبعد سنوات، قال الجنرال ستانلي ماكريستال، قائد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان، خلال مؤتمر صحافي في لندن، إن البشتون هزموا جميع الغزاة الأجانب في أفغانستان، من الإسكندر وصولاً إلى البريطانيين.
وبالمثل نجد أنه قبل اشتعال حرب الخليج التي أثمرت تحرير الكويت، بالغ «مجتمع الاستخبارات» في تقدير قوة الجيش العراقي، واصفاً إياه أحياناً بأنه «القوة العسكرية الرابعة على مستوى العالم»، ونصح بالاستعداد لحرب طويلة. في المقابل نجد أنه على أرض الواقع، انتهى الأمر برمته في غضون عدة أيام فحسب.
كما أن الانسحاب الكارثي من جانب الرئيس بايدن من أفغانستان جاء مدفوعاً في جزء منه على الأقل، بالمبالغة في تماسك، ناهيك بولاء، الجيش الأفغاني في عهد الرئيس أشرف غني.
كان ذلك جيشاً ينعم بأحدث أنظمة الأسلحة على مستوى دول الجوار، ويقوده ضباط مدربون في أكاديميات أميركية مرموقة. ما لم يذكره الخبراء الاستخباراتيون هنا أنه لأكثر عن عام قبل الانهيار الأخير، كانت أعداد متزايدة من ضباط الجيش وضباط الصف يرسلون أموالهم وعائلاتهم إلى الخارج. كما سمح الرئيس غني للمواطنين الأفغان بمغادرة البلاد بمبلغ يصل إلى 10000 دولار في كل رحلة. ومع رحيل آخر القوات الأميركية عن كابل، لم يكن هناك من يطفئ الأنوار في كل تلك الثكنات الفاخرة ومستودعات الأسلحة التي جرى بناؤها بمليارات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب الأميركيين.
نفس مجتمع الاستخبارات رأى أن صليل السيوف الروسية على شبه جزيرة القرم مجرد إشارات من فلاديمير بوتين في سياق الصراع على السلطة داخل كييف، ما عزز التأييد لقرار الرئيس باراك أوباما عدم الدخول في قتال مع الروس. عندما غزا بوتين واحتل شبه الجزيرة عام 2014 حاول أوباما الخروج من زاوية ضيقة بإعلانه أن روسيا «قوة إقليمية»، وأن تصرفاتها الانفرادية ليست شأناً يخص «الأمن الوطني» للولايات المتحدة.
من ناحيتها، وضعت أجهزة الاستخبارات تقاريرها «السرية للغاية» لتلائم تحليل أوباما الساذج، الأمر الذي أعطى بوتين الضوء الأخضر بغزوه الثاني للأراضي الأوكرانية خلال عام. كما بالغت التقارير نفسها في تقدير القوة العسكرية الروسية، متجاهلةً حقيقة أن الكثير من أسلحتها عتيقة ورثتها البلاد عن الحقبة السوفياتية.
في المقابل، ثبتت صحة توقعات أجهزة الاستخبارات عندما تنبأت بغزو بوتين العام الماضي، لكن هذا التوقع لم يدفع صناع القرار في واشنطن نحو صياغة سياسات للتعامل مع الأزمة المرتقبة.
وعليه، ربما كان من الأفضل لصناع القرار قراءة الصحف، بدلاً من قراءة التقارير «شديدة السرية» التي تلقوها وتجاهلوها.