كانت بداية إنشاء حي شبرا في القاهرة عندما وضع محمد على باشا عام 1802 حجر الأساس لبناء قصره في منطقة نائية على أطراف العاصمة المصرية، ثم تبع ذلك مد طريق من قلعة صلاح الدين إلى القصر الجديد ليكون بمثابة إشارة البدء بتعمير هذه المنطقة ودخولها تدريجاً إلى الحيز العمراني.
ومثّل قصر محمد علي عامل جذب لكثير من الأغنياء الذين بنوا قصوراً ومنازل فاخرة على شاطئ النيل ليتوالى تباعاً تدفق الناس على الحي الجديد وبناء كثير من المساكن والخدمات، حتى وصلت شبرا إلى وضعها الحالي كمنطقة رئيسة في قلب القاهرة وواحدة من أكثر أحيائها ازدحاماً.
شبرا أو (شبرو) كما كانت تعرف في اللغة المصرية القديمة تعني القرية باعتبارها كانت تضم مساحات شاسعة من المناطق الزراعية، تحولت في العصر الحديث إلى منطقة لها خصوصية فريدة بين جميع أحياء القاهرة بتراكم وتوالي التجارب الإنسانية التي بدأت مع اتجاه الناس للإقامة فيها، ومع تتابع الإنشاءات بدأ يظهر طابع مميز للمكان، بخاصة مع توافد بعض أبناء الجاليات الأجنبية مثل اليونانيين والإيطاليين وإنشائهم لمبان ذات طابع أوروبي لا تزال بقايا منها قائمة إلى الآن.
أرشيف شعبي للمنطقة
دوران شبرا وروض الفرج وسانت تريز والخلفاوي والمظلات، كلها مناطق تمتد في حي شبرا وصولاً إلى منطقة شبرا الخيمة التي يقع فيها قصر محمد على الشهير الذي لا يزال قائماً حتى الآن ويعد من الأماكن الأثرية الفريدة في المنطقة.
الحي الثري بطبيعته المميزة دفع أحد أبنائه إلى تبني مشروع لتوثيق تراثه من خلال مشاريع بحثية وفعاليات متنوعة ليحول جزءاً من بيت عائلته في قلب شبرا إلى المشروع القائم حالياً تحت اسم "أرشيف شبرا" بهدف خلق أرشيف شعبي للمنطقة يكون نابعاً من الحي وموجهاً إليه بالاستعانة بأبنائه والاعتماد على أرشيفاتهم الشخصية وذاكرتهم الجمعية حول أماكن وأحداث تتعلق بالمنطقة وتاريخها.
يقول الباحث في الأنثروبولوجيا ومؤسس "أرشيف شبرا" مينا إبراهيم لـ"اندبندنت عربية"، "خلال فترة دراستي الدكتوراه في ألمانيا سافرت إلى دول بينها إيطاليا وفرنسا وأميركا وشاهدت في كثير من أحياء هذه البلاد ما يطلق عليه الأرشيف الشعبي الذي يرصد تاريخ الحي من خلال قصص الناس وحكاياتهم وأرشيفاتهم غير الرسمية، ما يختلف تماماً عن أبحاث علمية تنشر في كتب أو دوريات علمية ولا يطلع عليها إلا المتخصصون بعكس مفهوم الأرشيف الشعبي، فما يكتب أو يتم إنتاجه يستهدف بالأساس السكان المحليين للمنطقة وهذا المفهوم بدرجة كبيرة غير موجود في مصر".
يضيف، "الناس حالياً تنشر صورها ويومياتها على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل فردي لتوثيق مواقف أو أحداث وما نحاول فعله هو شيء مشابه لذلك لكن بشكل جمعي لأهل شبرا، بحيث يكون موثقاً ومنظماً ويمكن الرجوع إليه، فمن خلال أرشيف شبرا حاولنا خلق حلقة وصل بين الجانب الأكاديمي والحياة اليومية للناس الذين يشاركون في إنتاج هذه المعرفة وتحليلها ونقدها وخلق حوار حولها".
شبرا "الكوزموبوليتانية"
من بين خصوصيات حي شبرا هو أنه كان دائماً جامعاً للثقافات والأديان والأعراق، فمن الجاليات الأجنبية التي انتقلت للحي مع بداية إنشائه إلى أعداد غفيرة من المصريين نزحوا من جميع أنحاء البلاد ليستوطنوا البقعة الجديدة، عاش الجميع في تنوع وسلام نتجت منهما حالة من الكوزموبولياتنية في الحي العريق، ظهرت في أدبيات رصدت واقع الحياة في المنطقة وعكستها أعمال فنية ودرامية كثيرة استلهمت من طابع المنطقة الفريد.
وإلى جانب كثير من المساجد، عرفت شبرا بأنها من أكثر الأحياء التي تضم عدداً كبيراً من الكنائس لتركز كثير من المسيحيين فيها على مر الأعوام، لتتحول إلى جزء من الطابع الثقافي للمكان مثلها مثل المباني والمتاجر ووسائل الترفيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول مينا إن "كثيراً من كنائس شبرا لها تاريخ يرتبط بالإرساليات الأجنبية الوافدة من أوروبا، وحتى الآن فإن كثيراً من هذه المباني لا تزال قائمة بالفعل، بعضها لا يزال يضم أجانب أو أفراداً من خلفيات أجنبية وبعضها أصبح يدار من قبل المصريين، وتميزت شبرا أيضاً بكثير من وسائل الترفيه، فكانت تضم 17 دار سينما لم يتبق منها غير واحدة فقط حالياً، ومن ثم نسمع حكايات الناس عن هذه السينمات المفقودة لبناء صورة عن المكان من خلال ذكريات قاطنيه".
ويضيف، "شبرا بشكل عام هي مثال جيد عند دراسة كيف تطورت وتوسعت القاهرة، ومن الملاحظ أنه لا يوجد أحد أصله من شبرا وإنما أصول ساكنيها تمتد إلى جميع أنحاء البلاد، فهناك من تعود أصولهم للصعيد ومن ينتمون للدلتا، إضافة إلى سكان القاهرة أنفسهم وكثير من الجاليات الأجنبية الذين انتقلوا للعيش في شبرا باعتبارها حياً هادئاً مع بداية إنشائه".
منهجيات التاريخ الشفهي
الأرشيف الشعبي بمفهومه العام هو واحد من مصادر المعرفة المعترف بها وله منهجيات علمية تؤدي إلى الحصول على نتائج ذات قيمة، ويمكن أن تضيف كثيراً إلى مواضيع معينة، إذ يحتوي على معلومات لا توجد في المصادر المتعارف عليها أو الأوراق الرسمية للمؤسسات المختلفة.
من جانبه يشير الباحث المتخصص في التاريخ حسام جاد إلى أن "ما نحاول تقديمه هو سردية تاريخية شعبية تعتمد على الحكايات الشفهية المتداولة بين الناس، مما يساعد على سد الفجوات في السرديات الرسمية التي تصدرها المؤسسات وتضيف إليها جوانب أخرى، وفكرة التأريخ الشعبي موجودة ومتعارف عليها ولها منهج يستند بشكل أساس إلى الذاكرة الشعبية فنسأل الناس عن مكان أو حدث ونرصد ماذا تقول عنه الذاكرة الجمعية لأهل الحي".
يضيف "الأرشيف الشعبي له مصادر متعددة نستمد منها المعلومات من بينها المقابلات المباشرة والأرشيفات العائلية مثل الصور والخطابات والتسجيلات والوثائق الخاصة، وكثير من الناس لا يدركون قيمة هذه الأمور أو أهميتها، لكنها مع مرور الزمن تتحول إلى جزء من الذاكرة الشعبية المصرية عن فترة معينة، فمن خلالها يمكن رصد كيف كان شكل حياة المصريين في حقبة التسعينيات على سبيل المثال أو كيف كانت طبيعة مكان معين خلال فترة زمنية محددة".
ترام شبرا
من بين العوامل الرئيسة التي كان لها أكبر الأثر في امتداد العمران لحي شبرا مد خط الترام مع مطلع القرن الـ20 إلى المنطقة حيث تم تشغيله عام 1902 عن طريق الشركة البلجيكية، مما شجع كثيراً من الناس على الإقامة فيها، واستمر الترام كواحد من معالم المنطقة حتى أزيل مطلع التسعينيات مع بدء مد خطوط مترو الأنفاق الذي أصبح الآن من أهم وسائل المواصلات لزائري شبرا وسكانها على السواء.
90 عاماً كان الترام فيها جزءاً من حياة سكان الحي، مما دفع الفريق البحثي القائم على "أرشيف شبرا" إلى تبني مشروع لتوثيقه باعتباره جانباً وملمحاً مهماً من تراث الحي على مدى فترة تقترب من قرن.
عن هذا المشروع تقول إيمان عفيفي من الفريق البحثي، "خلال الفترة الماضية حاولنا العمل على مشاريع عدة من بينها مشروع لأرشفة مسارات الترام في شبرا وحاولنا أن يكون النتاج المعرفي ليس فقط موجهاً للمتخصصين وإنما للجمهور العام، ونظمنا معرضاً يضم صور الترام ونتائج البحث إضافة إلى إنتاجنا لـ’بودكاست‘ لتوثيق تاريخ الترام منذ إنشائه حتى إزالته من شبرا بعد 90 عاماً استمر فيها كجزء من تاريخ المنطقة".
تضيف "تيمة أساسية نعتمد عليها هي فكرة الأرشيف الشخصي أو العائلي فنبدأ بالنظر إلى الحياة اليومية للناس من خلال هذا الأرشيف، ومن هنا ظهرت فكرة مشروعنا الذي يستهدف توثيق فكرة بيت العائلة وكيف تغير شكل الحياة وطابع الحي والحياة اليومية لأهله ونستهدف أن يكون الناتج المعرفي متاحاً للأكاديميين والجمهور العام وسكان المنطقة بشكل أساس".