أحوال حاكم المصرف المركزي من أحوال لبنان!

منذ 1 سنة 184

مضى عقدان وأكثر وحاكم المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة ملء السمع والبصر، وليس من جانب السياسيين والاقتصاديين اللبنانيين فقط؛ بل ومن جانب المسؤولين الماليين الدوليين، ومن ورائهم السياسيون في الاقتصادات الكبرى. ثم انقلب عليه رئيس الجمهورية اللبنانية السابق ميشال عون وصهره جبران باسيل. ولأنّ الرئيس ما استطاع أن يكسب السياسيين اللبنانيين إلى جانبه لإقصاء حاكم المصرف رغم أنه كان قد أطبق مع الآخرين في النظام على التجديد له لفترةٍ خامسةٍ أو سادسة؛ فقد سلّط عليه القاضية غادة عون، التي كان قد عينها نائباً عاماً في جبل لبنان. وبدأت غادة عون بمواجهة بعض مديري البنوك الذين ما كان جبران باسيل حسن العلاقة بهم؛ وكانت التهمة الحاضرة تهريب الأموال إلى الخارج بعد الانهيار المالي واحتجاز أموال المودعين بالبنوك بقرارٍ تحالفي بين حاكم المصرف والسياسيين وأصحاب البنوك! ولا حاجة لتكرار الوقائع بإسهاب. فبعد العام 2010 ازدادت ديون الحكومات المتعاقبة من المصرف المركزي للإنفاق على تسيير شؤون الدولة. ولكي يتمكن حاكم المصرف من قضاء حاجات النظام والسياسيين وبالاتفاق مع البنوك، جرى رفع أسعار الفائدة فتهافت اللبنانيون مهما كانت قلّة ما جمعوه، ليعمد البنك المركزي بدوره إلى زيادة ديونه للدولة أو إقراضها. وبسبب الاختلال في ميزان المدفوعات ما تمكنت الحكومات من إعادة القروض أو إطفائها، لأنّ ارتفاع الإنفاق الحكومي كان عظيماً ولفائدة أصحاب النفوذ وأصحاب البنوك وكبار المتمولين. ويكفي أن نذكر أنه في عام 2010 كانت وزارة الطاقة مدينةً بحدود عشرة مليارات دولار، وزادت ديونها عام 2020 على أربعين مليار دولار! والأمر على هذا النحو في سائر الوزارات والمرافق. وفي كل مرة يتهدد التوازن الظاهر يقوم حاكم المصرف بما يسمى إعادة الهيكلة ورقياً مثل الذي يلحس المبرد؛ إلى أن سقط الاقتصاد في الانهيار، وجرى إقفال البنوك على الودائع، من دون أن يعرف أحدٌ حتى اليوم مصائر الودائع، وهل لا تزال حاضرة أم تبخرت كما تبخرت سائر الأوضاع في لبنان.

في الأزمات، كما في سائر البلدان، وعندما يتهدد النقد بالانهيار، تسارع الحكومات إلى دعم البنوك بالتملك للضمان أو الإقراض أو الأمرين معاً كما حصل بين عامي 2008-2009، وكما يحصل الآن في بعض البنوك في الولايات المتحدة وفي سويسرا. وبالطبع ما أمكن ذلك في لبنان، لأنّ الإفلاس الحكومي كان شاملاً. وكما يحصل أيضاً في الأزمات يجري تهريب المال الجبان إلى الخارج، وتكثر الاتهامات بذلك، وهو الأمر الذي حصل بين العامين 2018 و2021. وهكذا بعد أن كانت غادة عون تلاحق جهات وبنوك التهريب، وبسبب رفع الغطاء الرئاسي عن حاكم المصرف، جرى اتهام الحاكم نفسه بالأمرين: مساعدة السياسيين والمتمولين الكبار على تهريب أموالهم، وتهريب أمواله هو نفسه مستخدماً هو وأخوه ومساعِداته أساليب احتيالية ومن طريق البنك المركزي أو من طريق الجهات الخاصة! ما حمل السياسيون اللبنانيون الأمر على محمل الجدّ في البداية، وحموا حاكم المصرف من دعاوى غادة عون، ثم صار الأمر صعباً بل متعذراً بعد أن بدأت جهات قضائية فرنسية وألمانية وسويسرية تُصغي لدعاوى أُقيمت على الحاكم في بلدانها ومصارفها، وتبين بالتحقيق أنّ للرجل ثروات كبرى وعقارات تراكمت عبر السنوات وإن ببطء؛ وإن يكن قسمٌ كبيرٌ منها ليس باسمه بل باسم أخيه وأعوانه.

علة العلل في النظام اللبناني أن هناك قوانين محكمة في شتى المجالات؛ لكنها لا تُطبَّق. ولذلك يحصل اندفاعٌ هائلٌ باتجاه جني الأرباح السريعة بشتى السبل. فالبنوك بنوك تجارية وخاصة، والمفروض أن الأموال فيها والقروض لمصالح وتعاملات السوق اللبنانية. لكنها خلال أكثر من عشر سنوات، صارت معظم قروضها عملياً للبنك المركزي. وبحسب قانون النقد والتسليف، يستطيع البنك ألا يُقرض الحكومة إذا لم يكن هناك أمل في السداد بالآجال المحدّدة. لكنّ الحاكم ظلَّ شديد الإقدام، وشديد الخدمة للسياسيين، بحجة تسهيل تسيير مصالح الدولة ومرافقها. وهكذا فقد أخلّت البنوك بأمانتها تجاه ودائع المودعين، وأخلّ حاكم المصرف بواجباته في تطبيق القانون حفظاً لأموال الناس. وبالطبع كان الأمران سبباً رئيسياً في الانهيار الحاصل والمتفاقم. وبالطبع أيضاً ما كان ذلك السبب الأوحد، لأنّ للانهيار وجوهاً وعللاً أُخرى تتعلق بالسياسات العامة للدولة الداخلية والخارجية. وللمرة الأولى يقول الحاكم بعد أن صار رهينة: اسألوا السياسيين!

إنما ما سِرُّ ضعف الحاكم المتفوق في التعامل مع الحكومات ومع السياسيين؟ السبب الأول أنّ السياسيين هم الذين يجدّدون له. والسبب الثاني أنه ومنذ التسعينات الماضية تصاعدت لديه طموحات سياسية: أن يصل إلى منصب رئاسة الجمهورية. والسياسيون في البرلمان بالطبع هم الذين يوصلونه. وكان الرئيس رفيق الحريري الذي عيّن سلامه حاكماً للمصرف قد قال إنه أتى للحاكمية برجلٍ مالي بحت لن تكون لديه طموحات سياسية على الإطلاق. لكنه بدأ في سنواته الأخيرة يشكو من طموحات الحاكم السياسية، الذي لم يعد بحاجة لدعمه في التمديد والتجديد بسبب علائقه المتنامية مع السياسيين، ومع السوريين الذين كان جيشهم في لبنان حتى العام 2005!

كان الاقتصادي الكبير كينز، صاحب رؤية الانضباط الصارم في الشأن المالي يقول: «الرأسمالية ليست جميلة، وليست ذكية، وليست حكيمة، وأكبر الأدلة على ذلك أنها في شراهتها للربح تفجّر نفسها»! وفي لبنان رأسمالية؛ لكنها بسبب إصرارها على تخطّي كل القوانين، ما عاد يمكن تسميتها نظاماً؛ بل صارت نمطاً من أنماط الفساد غير الحكيم بالطبع بل وغير المعقول. ويصل الفساد إلى مخ أو دماغ «النظام» عندما يصبح حاكم المصرف المركزي ممارساً عتيقاً للفساد، وهو أدرى الناس بما يحصل عندما يتصرف كما يتصرف أصحاب البنوك ويتصرف السياسيون. فقد دلّهم الحاكم وهو خبيرٌ ماليٌّ (وهم غير أبرياء على كل حال) في الأصل على الطرائق والأساليب للربح السريع من طريق نهب أموال الناس، والأنكى أنه سارع لمشاركتهم فصار أضعف منهم وأكثر مسؤولية لأنه هو حارس المال العام؛ فلماذا يكون ضرورياً أن يصبح حاميها حراميها؟!

لست خبيراً مالياً. وكثير من الأرقام تفوتني أو لا أفهمها. لكنْ منذ جاء المحققون الفرنسيون - لاستجواب حاكم المصرف، ووصل الأمر إلى حدّ سحب السلطات اللبنانية جوازات سفر الحاكم، الذي تنتهي مدته في شهر تموز (يوليو) 2023، قررتُ أن أكتب عن حالته باعتبارها جزءاً من أحوال لبنان الذي صار بلا قانون ولا نظام، وبلغت أموره فيما وراء أوضاع الدولة الفاشلة، وإلى حدود الأزمة الأخلاقية!