"نص بلاصة"، أي نصف مكان، و"بينتة" أي عقب السيجارة بالدارجة المغربية، و"الطويل عنده هيبة والقصير له خيبة"، تلك العبارات وأخرى يرددها بعضهم ولا تخلو من السخرية والهمر واللمز حيال شريحة من المجتمع المغربي هي "قصار القامة".
ويعاني عدد من قصار القامة في المغرب التنمر والتهكم، وفي أحسن الأحوال نظرات الشفقة والعطف، كما أنهم بالكاد يجدون فرص عمل كريم ولا يعثرون بسهولة على "النصف الآخر" في الزواج، لكن هذا لا يمنع من تحدي بعض قصار القامة لكل هذه العوائق وتحقيق نجاحات بارزة في المجتمع.
تنمر "نص بلاصة"
"نص بلاصة" لقب التصق بالشاب حميدة (28 سنة) من مدينة سلا المجاورة للعاصمة الرباط، حتى إن هذا النعت بات لا يفارقه في حله وترحاله، فالجميع في أحد الأحياء الشعبية لسلا يعرفونه بهذا اللقب الذي يعني أن جسده بالكاد يملأ نصف مكان لضآلته وقصر قامته.
ويقول حميدة لـ "اندبندنت عربية" إنه كان يشعر في البداية بالغضب والغيظ عندما أطلق عليه أصدقاؤه هذا اللقب حتى إنه كان يتعارك مع كثير منهم، غير أنه مع مرور السنوات لم يعد يثير فيه أية مشاعر سلبية.
وأفاد حميدة البالغ طوله متراً و30 سنتيمتراً بأن أكثر ما يؤثر في نفسية قصير القامة هي تلك الألقاب المتداولة في المجتمع والتي تنتقص من شخصيته أو من كفاءته فقط لأنه لا يملك طولاً عادياً مثل بقية الناس.
وزاد بأن "أكثر الألفاظ والأوصاف تداولاً بين عدد من المغاربة للإشارة إلى قصير القامة هو القزم، وهناك من يبدع في التسمية ويطلق عليه البيغمي، وهو شعب يملك أقصر قامة في العالم ويستوطن غابات أفريقيا الغربية والوسطى، وهو الشيء الذي يُشعر قصير القامة بالحرج والذل".
وأكمل حميدة قائلاً إن "قصير القامة قد يواجه عراقيل وصعوبات تتعلق مثلاً بتحركه وتنقله في الشارع والطرقات، أو ركوبه في الحافلات أو جلوسه في المقاهي، لكنه لا يستطيع في المقابل تجاوز ونسيان الإساءات اللفظية التي يسمعها من أفواه بعض الناس".
عاطلون
وليس التنمر أو السخرية المشكلة الوحيدة التي تواجه قصير القامة في المجتمع المغربي، بل أيضاً هناك مشكلة العثور على عمل أو وظيفة تناسبه حتى لو كان حاصلاً على مؤهلات جامعية.
وفي هذا الصدد يقول سمير الحاصل على الإجازة في الحقوق بطول لا يتجاوز المتر و40 سنتيمتراً، إنه لم يجد فرصة عمل تناسب شهادته الجامعية على رغم طرق عدد من الأبواب واجتيازه كثيراً من مباريات التوظيف.
ولفت الشاب ذاته إلى أن وظائف معينة يستحيل على قصير القامة أن يشتغل فيها، مثل وظائف الأمن والجيش والدرك وغيرها، لأنها وظائف تطلب طول القامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكمل الشاب العاطل أنه جرب التقدم إلى وظائف في القطاع الخاص، لكن قصر القامة كان سبباً واضحاً في رفضه إما بشكل مباشر أو بطريقة ضمينة ومؤدبة، قبل أن يطالب بتخصيص نسبة من الوظائف العمومية لقصار القامة لأنهم مواطنون كاملو الأهلية والأحقية في الشغل وفق ما ينص عليه الدستور المغربي.
ويذكر أن الفصل الـ (31) من الدستور المغربي المعدل عام 2011 ينص على أن "الدولة والمؤسسات العمومية تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي وولوج الوظائف العمومية بحسب الاستحقاق".
مهن هامشية
وأمام تعذر ولوج عدد من قصار القامة إلى فرص الشغل التي تلائم وتناسب مؤهلاتهم الذاتية والمهنية، فإن عدداً منهم يلجأون إلى مهن أو أنشطة بعينها، مثل المشاركة في أدوار تمثيلية كوميدية أو الاشتغال في مجال التنشيط الغنائي في الحفلات أو في السهرات الليلية أو في حراسة السيارات.
"توجد مهن نمطية معروفة يضطر قصير القامة إلى مزاولتها من أجل كسب لقمة العيش خصوصاً إذا كان مسؤولاً عن إعالة أسرته"، يورد أحد قصار القامة الذي يعمل منشطاً كوميدياً داخل إحدى الملاهي الليلية بالرباط.
ويضيف المتحدث عينه بأن "دوره ينحصر في إلقاء نكت والقيام بحركات بهلوانية لإضحاك الزبائن كل ليلة"، مردفاً أنها "مهنة مزرية لا يرضاها لنفسه، لكنه مرغم على قبولها وممارستها لأنه يعول أمه المريضة وشقيقه الصغير".
ويعلق الباحث السوسيولوجي سهيل سعيد على القضية قائلا إن الشغل مفتاح الكرامة الاجتماعية، وصعوبة العثور على فرصة عمل بالنسبة إلى قصار القامة ينقص هذه الكرامة في خضم الوضعية الاجتماعية والنفسية التي يعيشها معظم تلك الفئة.
وأوضح سعيد أنه يمكن إجمال المهن التي يزاولها قصار القامة بكونها مهناً وحرفاً هامشية في أغلبها، إذ نادراً ما يمكن مشاهدة قصير قامة يعتلي وظيفة مهمة أو منصباً كبيراً، مما يكشف مدى خضوع المنصب لسلطة الشكل والظاهر الخارجي للإنسان.
بعيداً من "النصف الثاني"
وبعيداً من غصة التنمر والتهكم وحرقة البطالة والعطالة، تظهر لوعة القلب عند قصار القامة، إذ إن كثيراً منهم يشكون الجفاء العاطفي من لدن الآخرين وصعوبة ربط علاقات عاطفية مع الجنس الآخر، وبالتالي ندرة خيارات الزواج.
هذه الملاحظة تؤكدها هند (29 سنة) لـ "اندبندنت عربية" بالقول إن حجمها وقامتها القصيرة منعتاها من الدخول في تجارب عاطفية، كما أن فرص الزواج باتت أمامها شبه منعدمة لأنه نادراً ما يقبل أحد الزواج من قصيرة القامة، على حد تعبيرها.
واستدركت المتحدثة عينها بأن قصيرة القامة غالباً إذا ما نجحت في نسج خيوط الحب فإن ذلك يتم مع مثيل لها في القامة، وإذا ما قررت ولوج القفص الذهبي فالأغلب أن يكون شريك حياتها قصير القامة أيضاً، وقليلاً جداً ما يشاهد طويل قامة يتزوج من قصيرة قامة.
ويعود الباحث السوسيولوجي سهيل سعيد للتعليق على هذه الحيثية بالقول إنه "كما فرص العمل قليلة بالنسبة إلى هذه الفئة فإن فرص الزواج تظل قليلة، إلا إذا تزوج قصيرا القامة بعضهما"، مشيراً إلى أن كثيراً من حالات الزواج هذه تحققت ونجحت واستمر زواجهم في سعادة ووئام.
وأردف المتحدث بأنه غالباً ما يتم التعارف بين قصار القامة في نواد وجمعيات وهيئات خاصة بهم، أو في أنشطة تجمع هذه الفئة من المجتمع، إذ يتطور التعارف إلى صداقة وربما إلى علاقة عاطفية قد تنتهي إلى بناء عش الزوجية.
تكسير الصورة النمطية
وعلى رغم جميع تلك العراقيل والمثبطات فإن هناك حالات لقصار القامة استطاعوا ضمان مكان لهم داخل المجتمع المغربي، إما بفضل مثابرتهم أو كفاءتهم ليخرجوا من الصورة النمطية المرسومة لهم.
وهكذا فإن عدداً من هؤلاء تمكنوا من النجاح في حياتهم الشخصية والمهنية، من قبيل أيمن شمهاجي الملقب بـ "طوفو" الذي صار أحد الوجوه المعروفة في "يوتيوب" بفضل قناته الخاصة، كما أنه أحد لاعبي كرة القدم لقصار القامة.
وتمكن منتخب قصار القامة المغربي من تحقيق منجز رياضي مهم قبل أشهر قليلة عندما وصل إلى ربع نهائي كوبا أميركا لعام 2022، والتي احتضنتها دولة البيرو، إذ قدم اللاعبون قصار القامة عروضاً بلغت عنان السماء، وفق تعبير معلقين واكبوا مسار هذا المنتخب العملاق.
ويوجد قصار قامة أيضاً استطاعوا تحقيق طموحاتهم في مجالات وميادين عدة مثل الأعمال الحرة والتجارة، ومن بينهم أحمد الذهبي الذي يقول لـ "اندبندنت عربية" إنه صاحب محال تجارية عدة لبيع الملابس، واشترى بفضلها شققاً في ملكيته وضيعة خارج المدينة.
ويلتئم عدد من قصار القامة في جمعيات تدعم مطالبهم وحقوقهم وعلى رأسها الجمعية المغربية لقصار القامة التي تهدف إلى "تغيير التمثلات الاجتماعية السلبية تجاه هذه الفئة وإدماجها الفعلي اجتماعياً واقتصادياً."