أجندة مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي للسّلام الإقليمي

منذ 6 أشهر 109

يتمتَّع مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بعلاقات سياسية واقتصادية وأمنية وثيقة، ومن هُنا تتلاقى مصالحهما حول قضايا الأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط وأوروبا. كما تسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى تحقيق الاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط؛ لأنَّ ذلك يعزِّز أمنها وتنميتها.

من ناحية أخرى، للصراع في الشرق الأوسط عواقب أمنية خطيرة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما تحفِّز المكاسب المُتبادَلة مصالحهما المشتركة بشأن حلّ الصراع في فلسطين وأوكرانيا، والاستقرار والتعاون في المنطقتين.

يوجد كثير من القواسم المشتركة بين المنظَّمتين، من حيث أصلهما وتطوُّرهما والغرض منهما، فقد مرَّت أوروبا برحلة تقدُّمية معجزة، على مدى العقود الثمانية الماضية، بعد أن شهِدَت أهوال الحرب العالمية الثانية. ويشكِّل الاتحاد الأوروبي اليوم، على الرغم من الصدمات المتلاحِقة، التي تعرَّض لها خلال العقدين الماضيين، نموذجاً يُحتذَى به للتكامل الإقليمي في العالم. وعلى الرغم من أنَّ مجلس التعاون الخليجي قد تولَّد ردّاً على تهديد أمني إقليمي، فقد تمكَّن كذلك من وضْع السِّمات الأساسية للتعاون الاقتصادي، على مدى العقود الأربعة الماضية. وبالتالي، تسعى المنظَّمتان إلى تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط الكبير وأوروبا؛ إذ يخدم ذلك أهدافهما المؤسَّسية المتمثّلة في البقاء والنمو.

تقود المملكة العربية السعودية مجلس التعاون الخليجي، كما هو الحال مع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي. لقد كانت مرساةً للاستقرار والنمو في الخليج والشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وعلى المستوى العالمي، بسبب سِماتها الوطنية المميَّزة؛ لكونها أكبر دولة خليجية وأغنى دولة عربية ومركز ثِقَل في العالم الإسلامي، وعامل استقرار رئيسيّاً في مجال الطاقة العالمية. كما شهِدَت المملكة تحوُّلاً اجتماعيّاً واقتصاديّاً هائلاً في ظلّ «رؤية 2030» الرائدة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في السنوات الثماني الماضية.

يؤكِّد هذا البرنامج الإستراتيجي أنَّ الرخاء المُستدام للشعب السعودي هو المحرِّك الأساسي للسياسة الخارجية للبلاد، فضلاً عن ازدهار واستقرار المنطقة.

تُدرِك القيادة السعودية أنَّ الفرصة السانحة لإنجاز الأجندة الاجتماعية والاقتصادية للرؤية تعتمد على الاستقرار الإقليمي، ومن ثمَّ فقد قادت عملية المصالحة السياسية والتنمية الاقتصادية في الخليج والشرق الأوسط.

كانت المنطقة بأكملها تعاني اضطرابات عميقة في أعقاب ما يُسمَّى «الربيع العربي»، مع حروب دامية في سوريا والعراق واليمن، كما ساعدت المصالحة في إعادة سوريا إلى حضن الجامعة العربية، ومعالجة الصراع بين الفصائل في العراق، والتوصُّل إلى وقْف إطلاق نار مُستدام ومسار سياسي في اليمن، وتحسين العلاقات التركية مع الخليج ومصر، والتغلُّب على الخلاف المؤسِف بين دول مجلس التعاون الخليجي وقطر، كما طبَّعت المملكة العربية السعودية العلاقات مع إيران، على الرغم من استخدام النظام الإيراني المتفشِّي وكلاء مسلَّحين لزعزعة استقرار الدول العربية في الماضي القريب.

مع ذلك، بعض القُوى لها مصلحة خاصَّة في تقويض الأمن والتعاون الإقليميين في المشهد المعقَّد بالشرق الأوسط.

لقد أدَّى هجوم حركة «حماس» على إسرائيل، والردّ العسكري الإسرائيلي الضخم في غزة، إلى توقُّف زَخْم المصالحة في الشرق الأوسط، بما في ذلك «اتفاقيات إبراهيم».

ولم تلتزم إسرائيل جانبها من الصفقة بموجب هذه الاتفاقيات، من خلال الاستمرار في بناء المستوطنات غير القانونية لليهود فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، بل كان الحديث عن التطبيع السعودي - الإسرائيلي، لكن ذلك مشروطٌ بإقامة دولة فلسطينية مستقِلَّة عاصمتها القُدس الشرقية.

أصبحت هذه الفُرصة النادرة ضحية - كذلك - للمصالح المتنافسة بين الوكُلاء المسلَّحين والعناصر القومية المتطرِّفة وسط حرب غزة.

كانت موجة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين البائسين سبباً في إثارة غضب الرأي العام في مختلف أنحاء العالم، خصوصاً بين الشعوب العربية والإسلامية. وهذا بدوره قد يؤدِّي إلى تأجيج المشاعر المتطرِّفة؛ ما قد يؤدِّي إلى إنتاج مزيد من «الإرهابيين» والمتعاطفين معهم.

لم تكُن دول الخليج ولا أعضاء الاتحاد الأوروبي في مأمن من موجة الإرهاب السابقة في المنطقة، كما أنتجت الحروب في العراق وسوريا وليبيا أسوأ أزمة لاجئين في تاريخ الاتحاد، في حين تبتعد اليوم - أيضاً - آفاق السلام في فلسطين مع مرور كل يوم.

تُدرِك المملكة العربية السعودية وأعضاء مجلس التعاون الخليجي الآخرون، على الأقلّ، الخطر الكامِن في التقاعُس العالمي في التعامل مع غزة. ومن ثمَّ، فقد انخرطوا في دبلوماسية محمومة للضغط من أجل وقْفٍ فوري لإطلاق النار، وتقديم الدعم الإنساني، واحتواء الصراع.

انحازت إيران إلى جانب دعْم «حماس» و«حزب الله» و«الحوثيين»... على الرغم من ذلك، كانت المحاولات الدبلوماسية، فقد انخرط القادة السعوديون والإيرانيون في محادثات للحدِّ من التوتُّرات، والحفاظ على التطبيع بينهما. وانخرطت إسرائيل وإيران في أعمال عدائية مفتوحة مرَّةً واحدة، لكنَّهما أظهرتا ضبْط النفس، منذ ذلك الحين لحُسن الحظ.

ولم تسمح المملكة ومجلس التعاون الخليجي في الوقت نفسه، بتجدُّد الصراع لعرقلة خُطَط التحديث والتكامل، كما لا تزال ثمار المصالحة الإقليمية الأخرى سليمة، إلى حدٍّ ما.

مع ذلك، تُعتبَر التداعيات الإقليمية للحرب في غزة واضحة، من خلال هجمات «الحوثيين» على الشحن الدولي في الخليج، والتبادُلات العسكرية المتكرِّرة بين «حزب الله» وإسرائيل.

ويجب هُنا على مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي منْع هذا الصراع من الانتشار خارج قطاع غزة... لقد اتّبعوا في السابق نهجاً تدريجيّاً للتغيير السياسي، خلال حرب العراق والانتفاضات العربية في عام 2011، وما بعده، كما يمتلك الاتحاد الأوروبي مصلحة مشتركة مع مجلس التعاون الخليجي في التأثير المحفِّز لـ«رؤية 2030» على الاستقرار والتعاون الإقليميين، ويدعم الحاجة المُلِّحَة إلى وقف إطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية في غزة، مثل المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. فقد دافعت السعودية لفترة طويلة عن «حلّ الدولتين» للصراع الفلسطيني، الذي توفِّر لها مبادرة السلام العربية، التي ترعاها السعودية، نقطةً مرجعية حاسمة للمفاوضات في أعقاب حرب غزة.

لذلك؛ دعت القيادة السعودية باستمرار، في بياناتها السياسية طوال هذا الصراع، إلى إحياء خطَّة السلام الشاملة هذه، التي توفِّر خياراً مُربِحاً للطرفين، أي الأمن للإسرائيليين والدولة للفلسطينيين.

وقد حظِيَت مبادرة السلام العربية بموافقة الجامعة العربية والأُمم المتحدة، وما فشلت اللجنة الرباعية الخاصَّة بالشرق الأوسط (التي ينتمي الاتحاد الأوروبي إلى عضويتها) في تحقيقه، فإنَّ خطَّة السلام هذه قادرة على تحقيقه، من خلال التوصُّل إلى صفقة سياسية مُستدامة بين إسرائيل وفلسطين، فضلاً عن الإجماع الدولي الحقيقي.

أمَّا بالنسبة للحرب في أوكرانيا، فقد تبنَّت المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي موقفاً حذِراً ومحايداً، وحقَّقت توازناً دقيقاً بين علاقاتها مع القُوى العالمية والمصالح الإقليمية، لكن ولي العهد وضَعَ نفسه بوضوح وسيطاً رئيسيّاً لإنهاء هذه الحرب من خلال الحوار، وهو الذي يتمتَّع بعلاقةٍ شخصية مع كلٍّ من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ إذ تُعَدُّ المملكة شريكاً مهماً لروسيا في مجموعة «أوبك+» للدول المنتجة للنفط.

استضافت المملكة العربية السعودية العام الماضي أكبر تجمع يضُمّ أكثر من 40 دولة، لكن ليس من بينها روسيا، لاستكشاف الخيارات الدبلوماسية لإنهاء الحرب... وزار الرئيس الأوكراني الرياض في فبراير (شباط) الماضي لمتابعة هذه المبادرة العالمية. ودخلت المملكة العربية السعودية كذلك في شراكة مع تركيا لتسهيل تبادُل السجناء بين كييف وموسكو، إلى جانب تقديم الدعم الإنساني لأوكرانيا؛ ما أدَّى إلى إطلاق سراح مواطنين غربيين.

ويجب على المملكة، جنباً إلى جنب حُلفائها الخليجيين والأوروبيين، مواصلة البحث عن تسوية قابِلة للتطبيق لهذا الصراع، ما سيُسهِم في الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي.

تتمتَّع دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بعلاقة طويلة الأمد، تقوم على اتفاقية تعاون موقَّعة في عام 1988.

ويجتمع الجانبان سنويّاً لمناقشة القضايا وأفضل الممارسات والإشراف على تقدُّمها، ويمتلكان كذلك شراكة استراتيجية تتضمَّن حوارات منتظِمة حول التعاون في مجالاتٍ، مثل التجارة والاستثمار، وتغيُّر المناخ، والطاقة، والبيئة، والأبحاث.

وقد تعزَّزت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي على مرِّ السنين، فقد أصبح الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، ومصدراً مهمّاً للاستثمار لدول الخليج، كما تميَّزت العلاقات بعددٍ من الزيارات والاجتماعات الرفيعة المستوى، بما في ذلك الاجتماع السابع والعشرون للمجلس المشترك بين دول مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي، والاجتماع الوزاري، الذي عُقِد في سلطنة عُمان في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

كما أنَّ مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي يمتلكان شراكة قوية تقوم على المصالح المشتركة في الأمن الإقليمي. وقد تعاونا في الجهود الدبلوماسية لحلِّ النزاعات في سوريا واليمن وليبيا في السابق، وكذلك في مبادرات مكافحة الإرهاب ضدّ الجماعات المتطرِّفة، مثل «داعش» و«القاعدة».

ويتعيَّن على هذه الدول في الوقت الحالي، ومع تهديد الحرب في غزة بتغذية موجة أخرى من التطرُّف، أن تعمل على تعزيز تعاونها الأمني من أجل إبقاء العواقب المترتِّبة على تجدُّد الصراع في الشرق الأوسط خارج حدودها... والأهمّ من ذلك، يجب على المنظَّمتين الدفع من أجل التوصُّل إلى حلٍّ دائم للقضية الفلسطينية، ضمن خيار الدولتين في إطار مبادرة السلام العربية. يتمثَّل التفويض المُطلَق، الذي تمنحه الولايات المتحدة لدولة إسرائيل في تشكيل العائق الرئيسي أمام تنفيذ ذلك الخيار، ويجب على الاتحاد الأوروبي أن يتفوَّق على واشنطن في هذا الصدد.

أخيراً، أخذت الصين زمام المبادرة، من خلال الاستثمار بكثافة في تطوير البنية التحتية السعودية، في إطار مبادرة الحزام والطريق، بما في ذلك شبكات النقل، ومشاريع الطاقة الخضراء، ومجمَّعات التكنولوجيا والمناطق الصناعية. لم يقُم الاتحاد الأوروبي بعد بتسخير المكافآت المُحتمَلة لهذه الطفرة التنموية، في إطار «رؤية 2030»، بشكلٍ كامل. صحيح أنَّ المملكة تسعى إلى أن تصبح مركزاً اقتصاديّاً عالميّاً، من خلال إعادة توجيه اقتصادها النفطي نحو القطاعات الإنتاجية للتكنولوجيا والطاقة الخضراء والخدمات والسياحة في ظلّ هذه الرؤية، لكن، وكما ذكرنا من قبل، تكمُن القيمة الحقيقية لـ«رؤية 2030» وراء التنمية الاقتصادية السعودية، بوصفها محفِّزاً للأمن والتعاون الإقليميين.

* نائب رئيس مجلس أمناء «رصانة»