على بعد 11 كيلومتراً غرباً من النيل تقع مدينة أبيدوس، التي تعد من أهم المدن التاريخية المصرية في الجنوب، إذ يعتقد بعض علماء الآثار أنها العاصمة الأولى لمصر في مرحلة ما قبل الأسرات وعهد الأربع أسرات الأولى، ويطلق عليها "العرابة المدفونة"، لأن كثيراً من آثارها وجدت مدفونة تحت الرمال.
وأبيدوس واحدة من أهم المراكز الدينية، بوصفها مقراً لعبادة أوزير، إله البعث والحساب ورئيس محكمة الموتى في الحضارة المصرية القديمة، وبطل الأسطورة الشهيرة المرتبطة بالخير والشر التي لا تزال متداولة المعروفة باسم "إيزيس وأوزوريس".
وتضم أبيدوس آثاراً متعددة من أهمها معبد سيتي الأول، وهو من أجمل المعابد المصرية القديمة، بدأ الملك سيتي بناءه، واستكمله ابنه رمسيس الثاني، الذي كان عهده زاخراً بالإنشاءات، وعدت فترة حكمة من الأقوى في تاريخ مصر.
ويضم المعبد إلى جانب نقوشه الفريدة ما يطلق عليه "قائمة ملوك أبيدوس"، وهي قائمة تضم أسماء 76 ملكاً من ملوك مصر القديمة، وتعد مصدراً مهماً لعلماء الآثار، للتعرف على تاريخ وتتابع ملوك مصر القديمة.
كنز لعلماء الآثار
يمر هذا العام 125 عاماً على بداية الحفائر الأثرية في العصر الحديث بمنطقة أبيدوس، إذ بدأت في أواخر القرن الـ19، وأثمرت خلال أكثر من قرن عن عديد من الاكتشافات الأثرية، التي أضافت كثيراً لعلم المصريات، نظراً إلى أهمية المدينة وقيمتها التاريخية في العصور القديمة.
تقول أماني عبد الحميد، الباحثة في علم المصريات لـ"اندبندنت عربية"، "على مدار 125 عاماً منذ بداية الحفائر الأثرية الأولى في منطقة أبيدوس بقيادة المستكشف الإنجليزي ويليام بيتري عام 1899، والمنطقة تعتبر موقعاً مهماً في سجلات علم الآثار المصري، فالاكتشافات في أبيدوس غيرت فهمنا للإدارة والمجتمع والدين في مصر القديمة، وخلفت بصمة كبيرة في مجال علم المصريات، كما لعبت أبيدوس دوراً بارزاً في تشكيل جوهر منهجيات وممارسات وإدارة التراث الحديثة، والاحتفال بالذكرى الـ125 على انطلاق الحفائر الأثرية في أبيدوس يمثل بداية جديدة للاطلاع على العمل الأثري، الذي جرى إجراؤه في المنطقة على مدار أكثر من قرن".
وأخيراً حصلت الباحثة على الجائزة المئوية من جمعية استكشاف مصر لعام 2023 – 2024، لبحث الدكتوراه الخاص بها Uncovering Abydos ليمثل نواة لإقامة مؤتمر عن أبيدوس عقد بالمركز الثقافي البريطاني بالقاهرة بمشاركات من علماء آثار مصريين وأجانب على السواء، وبدعم من جمعية استكشاف مصر ومتحف بنسلفانيا والمجلس الأعلى للآثار ومركز تسجيل الآثار المصرية بوزارة السياحة والآثار.
مقبرة رمزية للملوك في أبيدوس
يرجح العلماء أن مدينة أبيدوس يعود تاريخها إلى أكثر من 5 آلاف سنة، وتضم آثاراً متعددة، مثل منطقة شونة الزبيب، التي تعود لعصر الأسرة الثانية، ومنطقة أم الجعاب، التي عثر فيها على أكثر من 600 مقبرة، ومؤخراً جرى الكشف فيها عن مئات الجرار الفخارية التي تعود إلى ما يقرب من 5 آلاف عام، كما تضم أبيدوس بقايا معبد رمسيس الثاني، الذي أنشأه بجوار معبد والدة سيتي الأول.
محمد جمال راشد، أستاذ الآثار والدراسات المتحفية بجامعة دمياط والخبير بالمجلس الدولي للمتاحف، يقول "كانت أبيدوس مركزاً لعبادة المعبود أوزير رب العالم الآخر، وكل ما يتعلق بمعتقدات المصري القديم والشعائر الدينية مرتبط بأوزير، وكان المصري القديم يتوجه إلى منطقة أبيدوس في رحلات تشبه مفهوم الحج، لأهميتها الدينية الكبيرة، فهي واحدة من أهم مواقع الآثار في مصر عبر التاريخ، وواحدة من أقدم الأماكن لارتباطها بلب المعتقدات المصرية، والانتقال إلى العالم الآخر والحياة الأخرى، وبالفعل عثر في الجبانة على كثير من اللقى الأثرية تعود للزيارات المختلفة لعوام الناس الذين كانوا يتركون شيئاً عليه أسمائهم أو ما شابه للتبرك بالمنطقة المقدسة".
ويضيف راشد "تضم أبيدوس مجموعة من أهم الآثار في مصر، من بينها معبد سيتي الأول، وهو واحد من أهم وأجمل المعابد المصرية، ويتميز بنقوش فريدة، ومعبد الأوزوريون، والجبانة الأثرية، وأبيدوس لها ارتباط كبير بالبعد السياسي منذ اعتماد مصر كدولة واحدة مع بداية عصر الأسرات، فكان الملك يقيم مقبرة في سقارة، باعتبارها أول عاصمة أقيمت في منف، ويقيم مقبرة رمزية في أبيدوس دلالة على قيمة المكان، واستمر ذلك عصوراً طويلة في التاريخ المصري".
ويستكمل "في العصر الحديث، خصوصاً مع توالي الاكتشافات الأثرية في أبيدوس، فإن أرشيفات المكتشفين ذاتها تعتبر مصدراً رئيساً لمعرفة كثير عن المنطقة، وجوانب العمل الأثري والسياق الذي تحدث فيه، ويضيف ذلك كثيراً للمقتنيات والقطع الأثرية عند عرضها المتحفي، باعتبارها تضيف قصصاً للمقتنى وقصة اكتشافه، مما يمثل إضافة إلى المشاهد عند زيارتها في المتاحف".
جمعية استكشاف مصر
من أوائل المنقبين عن الآثار في منطقة أبيدوس هم الأثريون الإنجليز الذين كان لهم اهتمام كبير بالكشف عن الآثار المصرية، ولهم إنجازات كبيرة في هذا الشأن، وتعد جمعية استكشاف مصر الإنجليزية واحدة من أهم المؤسسات، التي كان لها باع طويل في الاكتشافات الأثرية في أبيدوس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول عصام ناجي، مدير مكتب جمعية استكشاف مصر بالقاهرة، "الجمعية هي مؤسسة إنجليزية تعمل في مصر منذ عام 1882، وكان إنشاؤها على يد إيميليا إدواردز الكاتبة الإنجليزية التي زارت مصر، وقامت برحلة نيلية من القاهرة إلى أبو سنبل، ووثقت كل الآثار التي مرت عليها في كتاب، وهي من أوائل من رصد ظاهرة تعامد الشمس في أبو سنبل، ليتوالى حضور المستكشفين الإنجليز إلى مصر من أمثال إدوارد نافيل وفلندرز بتري وغيرهم كثير، ويحققوا كثيراً من النجاحات في مجال الاكتشافات الأثرية".
ويضيف "المؤسسة تعمل في أبيدوس منذ أواخر القرن الـ19، وتركت تراثاً كبيراً وأرشيفاً شديد الثراء، ومن أهم اكتشافاتها الأثرية في أبيدوس هو تمثال الملك خوفو الموجود حالياً في المتحف المصري، فهو قطعة أثرية فريدة من نوعها باعتباره التمثال الوحيد الموجود لباني الهرم الأكبر، واكتشافه في أبيدوس له دلالة كبيرة على قيمة وأهمية هذه المنطقة خلال هذا العصر، فالمنطقة الأثرية في أبيدوس لها طابع مميز، فالآثار المصرية وصلت إلى قمة تألقها وظهر الرخاء والتألق في الفنون".
وعن وضع أبيدوس على خريطة السياحة في مصر يشير "تبعد المدينة عن الأقصر مسافة تقدر بنحو ساعتين ونصف ساعة بالسيارة، ولذلك أحياناً تدرج على جدول السياح الموجودين في الأقصر كرحلة ليوم واحد، لكن المنطقة تحتاج إلى اهتمام بصورة أكبر، وإلى إضافة مزيد من الخدمات مثل الفنادق والخدمات السياحية المتنوعة، وربما إنشاء مطار لخدمة المنطقة والمناطق الأثرية المحيطة بها فتوافر الخدمات يجعل من الممكن إدراجها بصورة أكبر على البرامج السياحية والإقامة بها لفترة يتخللها زيارة أثار المنطقة المحيطة مثل متحف سوها ومعبد دندرة، في الفترة الأخيرة زاد الاهتمام بمنطقة أبيدوس مقارنة بفترات سابقة، لكنها لا تزال في حاجة لمزيد".