أبلة فضيلة... صوت الحواديت الذي لا يشيخ

منذ 1 سنة 182

أنهت أبلة فضيلة حكايتها، تلك التي ارتبط اسمها بهذا النداء "يا ولاد يا ولاد.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة"، لكن حتى لو غابت صاحبة الصوت الرخيم فإن نداءها سيظل يتردد عبر الأثير.

مجد الإذاعة المصرية صنعته حناجر وأصوات مثل التي تمتلكها رائدة حواديت الأطفال السيدة فضيلة توفيق، التي غيبها الموت عن عمر 93 سنة في كندا، حيث قضت سنواتها الأخيرة بصحبة ابنتها وأحفادها، تدللهم بصوتها الذي لا تخطئه أذن من كان يلبي دعوتها اليومية للاستماع إلى "حكاية جميلة تسلينا وتوعينا"، وهي كلمات الأغنية التي رافقت برنامج الإذاعة الأكثر حضوراً في عالم الصغار، وقد كتبها شاعر كبير هو صلاح جاهين، وصاغ لحنها موسيقار بحجم سيد مكاوي، وذلك من أجل المذيعة التي ارتبط اسمها بإذاعة "البرنامج العام" أولاً، ثم بات علامة من علامات الراديو مصرياً وعربياً.

المحامية التي فشلت في أن تستمر في مهنتها يوماً واحداً، نجحت في أن تبقى على عرش برامج الأطفال لمدة جاوزت نصف قرن، والحقيقة أنها لا تزال الأولى في ما يتعلق بالحواديت، حيث إن فقرات برنامجها "غنوة وحدوتة" تذاع من حين إلى آخر، كما أن "يوتيوب" يحتفط بحكايات عدة من حكاياتها على قناة تحمل اسمها وتحقق مشاهدات بملايين، ليس فقط من قبل عشاق النوستالجيا، بل وكذلك أجيال هذه الأيام ممن لديهم شغف باكتشاف هذا العالم الساحر، الذي يصنعه الصوت الذي ينساب مثل ماء رائق وكأنه خلق فقط لهذه المهمة التي لا تليق إلا به.

زميلة كبار نجوم المجتمع

رسائل النعي التي تتوالى من المحبين والمعارف والجمهور العادي للسيدة التي نشأت في وسط القاهرة، وزاملها في سنوات دراستها المختلفة مشاهير كثر بينهم الملكة ناريمان زوجة الملك فاروق الثانية، والفنانة الراحلة فاتن حمامة، وسياسيون مثل أسامة الباز وعاطف صدقي وفتحي سرور، تكشف كيف كان تأثيرها عميقاً في النفوس.

فالصوت الذي تكاد تلمسه بأصابعك لفرط قدرته على التجسيد والإقناع، كانت ترافقه خطة وهدف وشخصية، حيث كانت المذيعة التي بدأت مسيرتها وهي في العشرينيات من عمرها حريصة على أن تكون مصدراً ثقافياً لمتابعيها الصغار، يتعرفون من خلاله على أبرز مبدعي العصر عن قرب، وهكذا كان من بين ضيوفها نجيب محفوظ ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وفاروق الباز وأنيس منصور وغيرهم من أعلام الفكر والفن، بينما لم ترغب أم كلثوم في أن تكون ضمن زائريها في الاستديو، حيث قالت فضيلة توفيق مازحة، في تصريح سابق، ما يعني أن كوكب الشرق كانت تجد أن صوتها كمذيعة منافس في عذوبته لصوت المطربة الكبيرة.

صانعة أحلام الأطفال

وكانت فضيلة توفيق مساهمة أيضاً في اكتشاف المواهب، حيث نعاها الفنان مدحت صالح، مبدياً أسفه على رحيلها، ومؤكداً أنها أول من قدمته عبر ميكرفون الإذاعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التحقت المذيعة القديرة بالعمل في الإذاعة بعد ثورة 1952 بعام واحد فقط، لكنها تأخرت في تحقيق حلمها كمذيعة برامج أطفال لأن الإذاعي الرائد محمد محمود شعبان، الشهير بـ"بابا شارو"، كان مختصاً بهذا الأمر ولم يكن يقبل المنافسة معه، لكن في عام 1959 حققت مرادها أخيراً، ودخلت هذا العالم ولم تخرج منه، وكانت حريصة على ألا تحاكي سابقيها في شيء، بخاصة في ما يتعلق بالاسم الذي ستعتمده في تعاملها مع مستمعيها، ورفضت أن تكون "ماما فضيلة" واكتفت بـ"أبلة"، التي تعني معلمة وأستاذة وأخت كبيرة توجه النصيحة بهدوء وبنبرة محببة، وترسم قصة كاملة بأدق تفاصيلها عبر نغمات صوتها الذي يحمل من الرزانة بقدر ما يحمل من البهجة، وقد كان بإمكان المستمع أن يتخيل الأحداث ملونة عن طريق تلك النبرات المحببة، لدرجة أن عدداً من أبناء هذا الزمان، وبخاصة قبيل انتشار أجهزة التلفزيون في البيوت، كانوا يتصورون أنهم لو نظروا من فتحتات الراديو سيرون أبطال القصة ويشاهدون الأطفال يتقافزون ويتحدثون ويضحكون مع راوية الحكاية، بخاصة أن بعض المشاهد كان يتم تمثيلها إذاعياً لتبدو الحبكة أكثر جاذبية.

المحامية التي صالحت الخصوم

ظلت فضيلة توفيق، التي تزوجت من كبير مهندسي الإذاعة إبراهيم أبو سريع، والحاصلة على وسام الاستحقاق الرئاسي، مخلصة لتسجيل حلقات "غنوة وحدوتة" حتى لبضع سنوات من الألفية الثالثة، وبعدها بفترة قصيرة باتت أكثر ظهوراً في الأنشطة الفنية من خلال مهرجانات ولقاءات وتكريمات، ومن هنا بدأت الأجيال بالتعرف على شخصيتها عن قرب، وبعضهم كان يراها ربما للمرة الأولى، وكان لافتاً أن هذا الصوت الذي سكن العقل والوجدان لم تجرحه أبداً الصورة والحضور كضيفة مكرمة ورائدة في مجالها.

في تلك المرحلة بدأت تفرج عن بعض كواليس مسيرتها المهنية والشخصية، ولعل أبرزها أنها حينما تخرجت في كلية الحقوق التحقت بالعمل كمحامية في مكتب المحامي ووزير المواصلات آنذاك حامد زكي، لكنها حاولت الصلح بين الخصوم المتنازعين على رغم أن مهنة المحاماة قائمة على التقاضي بين الأطراف، لتتيقن حينها من أنها لا تصلح أبداً لتلك المهمة، وهكذا ربحتها الإذاعة، وربحت هي محبة وتعلق أجيال وراء أجيال بصوتها وحكاياتها.

رسائل حزينة لوداع البراءة

"أبلة فضيلة" المولودة في الرابع من أبريل (نيسان) 1929 بالقاهرة، كانت مساهمة أساسية في تشكل وعي ووجدان ملايين من مستمعيها بمختلف توجهاتهم على مدى عقود، وقد رحل أشقاؤها الثلاثة وهم السيد وعلي وتوفيق، وقبل أربعة أعوام ودع الجمهور شقيقتها الممثلة صاحبة الموهبة الاستثنائية محسنة توفيق، التي تألقت في أعمال مهمة مثل مسلسلات "ليالي الحلمية والوسية وعلى باب زويلة"، وأفلام قوية من بينها "إسكندرية ليه" و"وداعاً بونابرت" و"البؤساء" كما أن أختها يسر توفيق كانت قد قدمت بعض الأغنيات في بدايتها، ثم ذهبت للاستقرار في إيطاليا حتى نهاية حياتها.

حرص عدد كبير من المشاهير على نعي "أبلة فضيلة" التي ودعوا معها أياماً وذكريات من عصر ذهبي، من بينهم المخرجة هالة خليل، والممثلة سلوى محمد علي، والمخرج يسري نصر الله، وكثيرون غيرهم، كما أصدرت الهيئة الوطنية للإعلام بياناً عبرت فيه عن تعازيها الحارة لأسرتها ومحبيها ووصفتها بالإذاعية القديرة التي تربت على صوتها المميز أجيال متعددة باعتبارها أشهر مقدمة برامج أطفال، والأمر نفسه بالنسبة إلى نقابة المهن السينمائية.

سيوارى جثمان السيدة فضيلة توفيق الثرى غداً الجمعة في مدينة بيكرينج الكندية، بحسب ما أعلنت ابنتها ريم إبراهيم علي، لكنها ستظل ساكنة في الذاكرة الشعبية والوطنية، وسيبقى صوتها فريداً ومتدفقاً عبر جميع الوسائط التي تتسابق للحصول على نسخ من حواديتها التي لا تشيخ.