أبعد مما قاله راغب علامة

منذ 3 أيام 21

ما قاله الفنان اللبناني راغب علامة في اتصال هاتفي نُسب إليه وتبرأ منه، وسُرب إلى العلن، ليس مجرد رأي شخصي أو موقف عابر، يتسم بقلة اللياقة حيال حرمة الموت. عبَّر علامة بحسب الاتصال المسرّب عن فرط سعادته بالخلاص من هيمنة «حزب الله» ممثلاً بمقتل زعيم الحزب حسن نصر الله، وبواقع أن هذا الحدث يفتح باب عودة العرب إلى لبنان. جن جنون أنصار نصر الله وأحرقوا مدرسة يملكها علامة، بعد أن هاجوا وماجوا في الطرقات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

الحقيقة أن ما ذهب إليه الفنان اللبناني يعد توصيفاً دقيقاً وحقيقياً لإدراك شعبي واسع لما آلت إليه هوية لبنان وعلاقاته نتيجة العنف والبلطجة والتسلط الذي مارسه «حزب الله» على الدولة والمجتمع، ولحال العزلة عن المحيط العربي جراء ذلك.

عاب البعض على علامة أنه كان يوماً ما مجاملاً لـ«حزب الله»، وأن ما قاله اليوم يتسم بالتناقض أو النفاق. بيد أن ما ينساه أصحاب هذا الطعن أن «النفاق» هو تماماً ما نجح «حزب الله» في فرضه على نظام العلاقات الاجتماعية في لبنان، بقوة الحديد والنار، وأن ثقافة المجاملة القسرية، هي التي سيجت وجود الحزب وأسبغت عليه وهم التأييد الشعبي العارم.

الأسوأ بين من يحاولون تأبيد الاختلال في نظام العلاقات في لبنان، عبر الحملة على راغب علامة، هم أولئك الذين يختبئون وراء قيمة الاحترام ويستخدمونها ذريعة لطمس الواقع ومنع توصيف أحداثه ومنعطفاته التاريخية. فمحاولة فرض الاحترام كالتزام ثابت، معزول عن الأفعال ونتائجها وشروط المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية، لا تسعى بالتأكيد إلى تعزيز قيمة الاحترام كفضيلة إنسانية، بل تتوسلها لحماية سرديات سياسية مشوهة وإعاقة أي محاولة للمحاسبة أو التصحيح. ما نحن بإزائه هنا ليس أكثر من خدعة لتحويل الاحترام من كونه قيمة أخلاقية إلى أداة ملتبسة تُستخدم لإدامة وتمجيد حالة الخضوع والتواطؤ مع قوى الأمر الواقع، بما يجعل هذا الاحترام نفسه مشكلة أخلاقية واجتماعية.

وعليه، فالانشغال بمحاكمة راغب علامة، سواء على قلة شجاعته المفترضة أو بسبب تناقض مواقفه بين المعلن والمضمر، يبتعد بنا عن لبّ المشكلة.

عاش اللبنانيون، بمن فيهم راغب علامة، لعقود في ظل نظام قمعي حوَّل كل معارض إلى هدف للاغتيال أو الترهيب أو الإقصاء، لتكون النتيجة أن كثيرين في لبنان قبَّلوا يد «حزب الله» في العلن ودعوا لها بالكسر سراً، كما يقول مثل شائع في الثقافة الشعبية في بلاد الشام. وما استردّ هؤلاء بعضاً من شجاعتهم إلا حين تيقنوا أن هذه اليد ضعفت، فتيسرت لهم القدرة على قول بعض الحقيقة.

تصريح علامة، وإن جاء في لحظة خصوصية لم يظن أنها ستتسرب، هو تعبير عن هذا التحرر الجزئي الذي عاشه كثيرون مثله في ظل تراجع «حزب الله». ومن الظلم التلهي بمحاكمته بمعزل عن نقد النظام الذي فرض عليه وآخرين من أبناء البيئة الشيعية شروط بقاء قاسية تقوم على تقنيات الإخضاع الممنهج.

وليس الرد بإحراق مدرسة يملكها علامة، إلا بعضاً من تقنيات الإخضاع هذه، التي تتوسل رفع التكلفة على أصحاب أي رأي مختلف، وإشعار الآخرين، عبر عبرة العقاب الهمجي هذا، أن كل ما يمثل تعددية أو تنوعاً أو خروجاً عن الخط الذي يرسمه الحزب يصبح هدفاً للإقصاء والترهيب.

ما قاله راغب علامة، وما أعقب ذلك من ردود أفعال عنيفة، يكشف من حيث لا يريد الفنان اللبناني، أن الخلاص من هيمنة «حزب الله» لا يقتصر على إنهاء سيطرته السياسية أو العسكرية، إنما يتطلب أيضاً التحرر من ثقافة النفاق القسرية التي فرضها على المجتمع اللبناني. عودة لبنان إلى مكانته الطبيعية كدولة عربية ذات سيادة، ومجتمع متنوع قادر على التعبير بحرية، تبدأ بتفكيك هذه المنظومة القمعية التي حجبت الحقيقة وأجبرت الناس على الصمت أو المجاملة.

وما خوف راغب علامة، وتنصله من تصريحاته بحجة أن المقطع الصوتي المسرب مطور عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلا انعكاس لأزمة الواقع القمعي الذي لا يزال يعيشه لبنان، والذي لا يزال يتمظهر بمجاملات لسطوة الحزب الآفلة حتى من قبل السياسيين وأهل الحكم.

الخلاص من هيمنة «حزب الله» ليس خياراً، بل ضرورة وجودية للبنان وشعبه. ما حدث مع راغب علامة، من تسريب التصريح إلى الاعتداء على ممتلكاته، هو صورة مصغرة للأزمة الأكبر التي يعيشها لبنان. بيد أن مثل هذه اللحظات، ومهما بدت مؤلمة أو صادمة، إنما تكشف في الوقت ذاته عن بداية تصدع ثقافة القمع والنفاق التي حكمت المجتمع اللبناني لعقود. ومع تزايد الأصوات التي تتحدى هذه السيطرة، يصبح الخوف ليس فقط لغة السلطة، بل دليلاً على تراجعها أيضاً.

والحال، أن استعادة الشجاعة الفردية والجماعية للتعبير عن الحقيقة، رغم التهديدات، هي الخطوة الأولى نحو بناء لبنان الجديد: لبنان الذي يتحدث فيه الناس بلا خوف، ويختارون مستقبلهم بلا إملاءات.